سُبحانَ مَن لم تَحوِهِ أَقطارُ – ابن عبد ربه
سُبحانَ مَن لم تَحوِهِ أَقطارُ … ولم تكنْ تُدركُهُ الأَبصارُ
… ـناكَ من خوطِ بانة ٍ بيضاءَ
ومن عنت لوجهه الوُجوهُ … فما له نِدٌّ ولا شَبيهُ
أن يُعرفَ التحريكُ والسُّكُونُ … داءَك في الإملالِ والقريضِ
سبحانَه مِن خالقٍ قديرِ … وعالمٍ بخلقهِ بصيرِ
وأوَّلٍ ليس له ابتداءُ … وآخرٍ ليس له انتهاءُ
أوسعنا إحسانُه وفضلُهُ … وعَزَّ أَن يكونَ شيءٌ مثلُهُ
… في الفصلِ والغائي والابتداءِ
وجلَّ أنْ تُدْركهُ العيونُ … أو يَحْوياه الوهم والظنونُ
لكنَّهُ يُدرَك بالقَريحَه … والعَقلِ والأَبنية ِ الصَّحيحَه
أيها العاذلاتُ في الحبِّ ، إنَّ الـ … ـعذلَ في الحبِّ ينتهي إغراءَ
وهذه من أثبت المعارف … في الأَوْجهِ الغامضَة ِ اللَّطائفْ
مُجازفاً إذ خانَهُ الدَّليلُ … ولا يكونُ في سوى ذي الأَربعَهْ
مَعْرفة ُ العَقْل من الإِنسانِ … أثبتُ من معرفة ِ العِيانِ
فالحمْدُ لِلّهِ على نَعْمائِهِ … حمداً جزيلاً وعلى آلائِهِ
سالمة ً من أَجمعِ الزِّحافِ … لا كُلِّ ما تخُطُّهُ اليَدانِ
ستة اربع عشرة وثلاثمائة لم يَ … غْزُ فيها وغَزَتْ قُوَّادُهُ
أَما تَراهُ في هَوانٍ يرتَعُ … بِعَسْكرٍ يَسْعرُ مِن حُماتِهِ
وإنَّما أَجازَه الخليلُ … تتعبُ النفسَ ، هل تنالُ السماءَ؟
فاستنزلَ الوحشَ مِنَ الهضابِ … كأَنَّما حُطَّتْ منَ السَّحابِ
أسرتي ، لا أقولُ فخراً ، سراة ٌ … حسبهمْ ذاكَ ، مفخراً وسناءَ
فأَذعنتْ مُرَّاقُها سِراعَا … وأقبلتْ حُصونُها تداعَى
ثم أتى به إلى الإمامِ … مَشْحوذة ٍ على دُروعِ الحَزْم
كادتْ لها أَنفُسُهُمْ تَجودُ … وكادتِ الأرضُ بهم تَميدُ
لولا الإلهُ زُلزلتْ زِلزالَها … وأخْرَجتْ من رَهْبة ٍ أثقالَها
فأَنزلَ الناسَ إلى البَسيطِ … وقَطَّع البَيْنَ منَ الخَليطِ
وافتتحَ الحُصونَ حِصناً حِصنا … وأَوْسعَ الناسَ جميعاً أَمْنا
ولم يَزْلْ حتى انْتحى جَيَّانا … فلم يَدَعْ بأَرْضِها شَيطانا
أَسبابَ مَن أَصبح فيه خالعا … قد عَقَد الإلَّ لهم والذِّمَّه
ثم انتَحى من فَورِه إلْبيرَهْ … وهي بِكلِّ آفة ٍ مشهورَهْ
فداسَها بِخَيلهِ ورَجْلهِ … حتى توطَّأ خدَّها بِنَعْلهِ
ولم يدعْ من جِنِّها مريدا … بها ولا من إنسها عَنيدا
إلا كَساهُ الذُّلَّ والصَّغارا … وعمَّهُ وأهلهُ دمارا
فما رأيتُ مثلَ ذاكَ العامِ … ومثلَ صُنعِ اللّه للإِسلامِ
فانصرفَ الأَميرُ من غَزاتِهِ … وقد شَفاهُ اللهُ من عُداتهِ
وقبلَها ما خضعتْ وأذعنتْ … إسْتِجة ُ وطالما قد صَنعتْ
وبعدها مدينة الشَّنَّيلِ … ما أَذعنتْ للصَّارمِ الصَّقيلِ
لما غزاها قائدُ الأميرِ … باليُمنِ في لوائهِ المنصورِ
فأسلمتْ ولم تكنْ بالمُسلمَهْ … وزالَ عنها أحمدُ بنُ مسْلمهْ
وبعدها في آخرِ الشُّهورِ … من ذلك العامِ الزَّكيِّ النُّورِ
أَرْجفتِ القِلاعُ والحُصونُ … كأنَّما ساوَرَها المَنُونُ
وأقبلتْ رجالُها وُفودا … تبْغِي لدَى إمامها السُّعودا
وليسَ مِن ذِي عزَّة وشدَّه … إلا توافوا عندَ بابِ السُّدَّه
قلُوبُهمْ باخعَة ٌ بالطَّاعَهْ … قد أجْمعةا الدُّخولَ في الجماعَه
وبعدَ حَمْدِ الله والتَّمجيدِ … وبعد شُكرِ المُبدئِ المُعيدِ
أقولُ في أيامِ خيرِ الناسِ … ومَن تحلَّى بالنَّدى والباسِ
ومَن أَبادَ الكُفرَ والنِّفاقا … وشَرَّد الفتْنة والشِّقاقا
ونحنُ في حَنادسٍ كالليل … وفتنة ٍ مثلِ غُثاءِ السَّيلِ
حتى تولَّى عابدُ الرحمنِ … ذاكَ الأَغرُّ من بني مروانِ
مؤيَّدٌ حَكَّمَ في عُداتِه … سيفاً يَسيلُ الموتُ من ظُباتِهِ
وصبَّحَ المُلكَ معَ الهلالِ … فأصبحَا نِدَّيْنِ في الجمالِ
واحتمل التَّقوى على جبينهِ … والدينَ والدُّنيا على يمينهِ
قد أَشرقتْ بِنُورِهِ البلادُ … وانقطعَ التَّشغيبُ والفسادُ
هذا على حينَ طغَى النِّفاقُ … واستفحلَ النُّكاثُ والمُرَّاقُ
وضاقتِ الأَرضُ على سُكانِها … وأَذْكَتِ الحربُ لظَى نيرانِها
ونحنُ في عشواءَ مُدلهمَّهْ … وظُلمة ٍ ما مثلُها من ظُلمهْ
تأخذُنا الصَّيحة ُ كُلَّ يومِ … فما تلذُّ مُقْلة ٌ بنَوْمِ
وقد نُصلِّي العيدَ بالنواظِر … مخافة ً من العدوِّ الثائِر
حتى أتانا الغوثُ من ضِياءِ … طَبَّقَ بينَ الأرْضِ والسماءِ
خَليفة ُ اللّهِ الذي اصطفاهُ … على جميع الخَلقِ واجْتباهُ
من معدنِ الوحيِ وبيتِ الحكمهْ … وخيرِ منسوبٍ إلى الأئمَّهْ
بكتْ على ما فاتَها النواظِرُ … وتَسْتحي من جُوده السَّحائبُ
في وجهه من نوره برهانُ … وكفُّه تقْبيلُها قُرْبانُ
أحْيا الذي ماتَ منَ المكارم … من عَهدِ كعْبٍ وزَمانِ حاتِم
وشِيمة ٌ كالصَّابِ أَو كالماءِ … وهِمَّة ٌ ترقى إلى السَّماءِ
وانظرْ إلى الرفيعِ من بُنيانِهِ … يُريكَ بِدْعاً من عَظيم شانِهِ
لو خايل البحرُ ندى يديهِ … إذا لجَت عُفاتُهُ إليهِ
لغاضَ أو لكادَ أن يغيضا … ولاسْتَحى من بعدُ أَنْ يَفيضا
من أسبغَ النُّعمى وكانتْ محقا … وفتَّق الدُّنيا وكانتْ رَتْقا
سامية ً في خَيلها المُسوَّمهْ … وجابَ عنها دامِساتِ الظُّلمَهْ
وجَدَّدَ المُلكَ الذي قد أَخْلَقا … حتى رَسَتْ أَوتادُهُ واسْتوسقا
وجَمَّعَ العُدَّة َ والعَديدا … وكَثَّفَ الأَجْنادَ والحُشودا
ثم غزا في عُقبِ عامٍ قابلِ … فجالَ في شَذُونة ٍ والسَّاحلِ
ولو يَدَعْ ريَّة َ والجزيرَه … حتى كوى أكلبَها الهريرَهْ
حتى أناخ في ذُرى قرْمونَه … بكَلْكلٍ كَمُدْرة ِ الطَّاحُونَه
على الذي خالفَ فيها وانتزَى … يُعْزى إلى سوادة ٍ إذا اعتزى
فسالَ أنْ يُمهلَهُ شُهورا … ثم يكونُ عبدَه المأمورا
فأَسعفَ الأميرُ منهُ ما سألْ … وعادَ بالفَضْلِ عليهِ وقفلْ
… من غزْوِ إحدى وثلاثِ ميَّه
فلم يكنْ يُدركُ في باقيها … غزْوٌ ولا بَعْثٌ يكونُ فيها
… وقد كساهُ عَزْمَه وحزْمهْ
فسارَ في جَيْشٍ شديدِ الباس … وقائدُ الجيْش أَبوالعبَّاس
حتى تَرقَّى بذُرى بُبَشْتَرْ … وجالَ في ساحاتها بالعسكرْ
فلم يَدَع زَرْعاً ولا ثمارا … لهم ولا عِلقاً ولا عُقارا
مَكارمٌ يَقصُرُ عنها الوَصْفُ … ولم يُباع عِلجُها ولا ظهَرْ
ثم انثنى من بعدِ ذاكَ قافلا … وقد أبادَ الزَّرعَ والمآكِلا
فأيقنَ الخِنزيرُ عندَ ذاكا … أنْ لا بقاءَ يُرتَجى هُناكا
فكاتَبَ الإمامَ بالإجابَه … والسَّمْعِ والطَّاعة ِ والإنابَه
فأخْمدَ اللهُ شِهابَ الفِتْنه … وأصْبحَ الناسُ معاً في هُدْنه
وارتعتِ الشاة ُ معاً والذِّيبُ … إذْ وضعتْ أوزارَها الحرُوبُ
وبعدها كانتْ غزاة ُ أرْبعِ … فأيَّ صُنْعٍ ربُّنا لم يصنعِ ؟
فيها ببَسْطِ المَلِك الأَوَّاه … كِلْتا يَديه في سَبيلِ اللّهِ
وذاكَ أنْ قوَّدَ قائدينِ … بالنَّصرِ والتَّأييدِ ظاهرَيْنِ
هذا إلى الثَّغرِ وما يَليهِ … على عدوِّ الشِّركِ أو ذويه
وذا إلى شُمِّ الرُّبا من مُرْسِيَه … وما مضى جرى إلى بَلنْسيه
فكانَ من وجَّهه للساحلِ … القرشيُّ القائدُ القنابل
وابنُ أبي عَبْدة َ نحوَ الشِّرْكِ … في خَيْرِ ما تَعْبية ٍ وشكِّ
فأقبلاَ بكُلِّ فَتْحٍ شاملِ … وكُلِّ ثُكلٍ للعدوِّ ثاكلِ
وبعدَ هذي الغزوة ِ الغرَّاءِ … كانَ افتتاحُ لَبْلة َ الحَمْراءِ
أغزى بجُندٍ نحوها مولاهُ … في عُقْبِ هذا العامِ لا سواهُ
بدراً فضمَّ جانبيْها ضمَّه … وغَمَّها حتَّى أجابتْ حُكمَه
أَسْلمتْ صاحبَها مَقهورا … حتى أتى بدرٌ به مأسورا
وبعدها كانتْ غَزاة ُ خمسِ … إلى السَّواديِّ عقيدِ النَّحْسِ
لما طَغى وجاوزَ الحُدودا … ونقضَ الميثاقَ والعُهودا
ونابذَ السُّلطانَ من شَقائهِ … ومِن تَعدِّيه وسُوءِ رائِهِ
أغزى إليه القُرشيِّ القائدا … إذ صارَ عن قَصْدِ السبيلِ حائدا
ثُمَّتَ شَدَّ أَزرَهُ ببَدْرِ … فكانَ كالشَّفعِ لهذا الوِتْرِ
أَحدَقَها بالخيلِ والرجالِ … مُشمِّراً ، وجدَّ في القتالِ
فنازلَ الحِصْنَ العظيمَ الشانِ … بالرَّجْلِ والرُّماة ِ والفُرسانِ
فلم يزل بدرٌ بها محاصرا … كذا على قِتاله مُثابِرا
والكلبُ في تهوُّرٍ قدِ انغمَسْ … وضُيِّقَ الحَلْقُ عليهِ والنَّفَسْ
فافترقَ الأصحابُ عن لوائهِ … وفتحوا الأبوابَ دونَ رائهِ
واقتحم العَسكرُ في المدينَهْ … وهُوَ بها كهيْئة ِ الظعينَهْ
مسْتسلماً للذُّلِّ والصَّغار … ومُلقياً يديهِ للإسارِ
فنزَعَ الحاجبُ تاجَ مُلْكِهِ … وقادَه مُكتَّفاً لِهُلْكِهِ
وكانَ في آخرِ هذا العامِ … نَكْبُ أَبي العبَّاسِ بالإسلامِ
غزا وكانَ أنجدَ الأنجادِ … وقائداً من أَفحلِ القُوَّادِ
فسارَ في غيْرِ رجالِ الحربِ … الضَّاربينَ عند وَقْتِ الضَّربِ
مُحارباً في غيرِ ما مُحاربِ … والحشمُ الجُمهورُ عندَ الحاجبِ
واجتمعتْ إليه أخلاطُ الكُوَرْ … وغابَ ذو التَّحصيلِ عنهُ والنَّظرْ
حتى إذا أَوْغلَ في العَدُوِّ … فكانَ بينَ البُعدِ والدُنوِّ
أسلمهُ أهلُ القلوبِ القاسيهْ … وأَفردوهُ للكِلابِ العاويَهْ
فاستُشهدَ القائدُ في أبْرارِ … قد وَهَبوا نُفوسَهم للبارِي
في غير تأخير ولا فِرار … إلاَّ شديدَ الضَّربِ للكُفارِ
… وأَحْكَم النصرَ لأَوْليائهِ
في مبدأ العامِ الذي من قابلِ … أزهقَ فيهِ الحقُّ نفْسَ الباطلِ
فكان من رأيِ الإمامِ الماجدِ … وخَيْرِ مَولودٍ وخَيْرِ والدِ
أَنِ احتَمى بالواحِدِ القهَّارِ … وفاضَ من غيظٍ على الكُفارِ
فجمَّعَ الأجنادَ والحُشودا … ونفَّرَ السيِّدَ والمَسودا
وحَشَرَ الأَطرافَ والثُّغورَا … ورَفَضَ اللَّذاتِ والحُبورَا
حتى إذا ما وَفتِ الجنودُ … واجتمعَ الحُشَّادُ والحُشودُ
قَوَّدَ بدراً أَمرَ تلك الطائفَهْ … وكانتِ النفسُ عليه خائفهْ
فسارَ في كتائبٍ كالسَّيلِ … وعَسكَرٍ مِثلَ سَوادِ اللَّيلِ
حتى إذا حَلَّ على مُطنيَّه … وكانَ فيها أخبثُ البريَّهْ
فحطَّه من هَضَباتِ ولبِ … كأنما أُضرمَ فيها النارُ
وجدَّ من بينهمُ القتالُ … وأحدقتْ حولهمُ الرجالُ
فحاربُوا يومَهمُ وباتُوا … وقد نَفتْ نومَهمُ الرُّماة ُ
فهم طَوالَ الليلِ كالطَّلائحِ … جراحُهم تَنْغل في الجوارحِ
ثم مضوا في حربهم أياما … حتى بدا الموتُ لهم زؤاما
لما رأَوا سحائبَ المَنيَّه … تمطرهم صواعق البليَّه
تَغَلْغَلَ العُجمُ بأرضِ العُجمِ … وانحشَدوا مِن تحتِ كُلِّ نجمِ
فأقبلَ العِلْجُ لهم مُغِيثَا … يومَ الخَمِيسِ مُسْرِعاً حَثِيثا
بين يديهِ الرَّجلُ والفوارسُ … وحولَهُ الصُّلبانُ والنَّواقسُ
وكان يرجو أنْ يُزيل العَسْكرا … عن جانبِ الحِصْن الذي قد دُمِّرا
فاعتاقَه بدرٌ بمن لديهِ … مُستبصِراً في زَحْفِهِ إِليهِ
حتى التَقتْ مَيْمنة ٌ بمَيْسرَه … واعتنتِ الأرواحُ عندَ الحَنْجره
ففازَ حِزْبُ اللهِ بالعِلجانِ … وانهزمتْ بِطانة ُ الشَيطانِ
فقُتِّلوا قتلاً ذريعاً فاشياً … وأدبر العِلْجُ ذميماً خازياً
وانصَرفَ الناسُ إلى القُلَيعَه … فصبَّحوا العَدوَّ يومَ الجُمْعهْ
ثم التقى العِلْجانِ في الطَّريق … البَنْبلونيُّ مع الجِلِّيقي
فأعقَدا على انتهابِ العَسكرِ … وأن يموتا قبلَ ذاكَ المحْضرِ
وأقْسما بالجبْتِ والطَّاغوتِ … لا يُهْزَما دونَ لقاءِ الموْتِ
فأقبلوا بأعظم الطُّغيانِ … قد جلَّلوا الجبالَ بالفُرسانِ
حتى تَداعى الناسُ يومَ السبتِ … فكانَ وقتاً يا لهُ من وقْتِ
فأشرعتْ بينهمُ الرِّماحُ … وقد علا التَّكبيرُ والصِّياحُ
وفارقتْ أَغمادَها السُّيوفُ … وفغرتْ أفواهها الحتوفُ
والتقتِ الرجالُ بالرِّجالِ … وانغمسوا في غَمْرة ِ القتالِ
في مَوْقفٍ زاغتْ به الأَبصارُ … وقصُرت في طُولهِ الأَعمارُ
وهبَّ أهلُ الصَّبرِ والبصائرِ … فأوعقوا على العدوِّ الكافرِ
حتى بدتْ هزيمة ُ البُشكنسِ … كأنَّهُ مُخْتضبٌ بالوَرْسِ
فانقضَّتِ العقبانُ والسَّلالقهْ … زَعْقاً على مُقدَّم الجلالِقهْ
عِقبانُ موتٍ تخطفُ الأرواحا … وتُشبعُ السيوفَ والرِّماحا
فانهزمَ الخنزيرُ عندَ ذا كا … وانكشفتْ عورتُه هناكا
فقُتِّلوا في بطنِ كلِّ وادِ … وجاءتِ الرؤوسُ في الأعْوادِ
وقَدَّم القائدُ ألفَ راسِ … من الجَلاليق ذوي العماسِ
فتمَّ صُنعُ اللّهِ للإسلامِ … وعمَّنا سرورُ ذاكَ العامِ
وخيرُ ما فيهِ من السُّرورِ … موتُ ابن حفْصونَ به الخنزيرِ
فاتَّصلَ الفتحُ بفتحٍ ثانِ … والنصرُ بالنَّصرِ من الرحمنِ
وهذه الغزاة ُ تُدعى القاضِيَه … وقد أتتْهُمْ بعدَ ذاك الدَّاهِيهْ
وبعدها كانت غزاة ُ بلْده … وهي التي أودتْ بأهلِ الرِّدَّه
وبدْؤُها أنَّ الإمامَ المصطفى … أصدقَ أهلِ الأرضِ عدلاً ووفا
لما أَتتْهُ مِيتة ُ الخِنْزيرِ … وأنه صارَ إلى السَّعيرِ
كاتَبَه أولاده بالطاعهْ … وبالدُّخولِ مَدْخلَ الجَماعَهْ
أنْ يقِرَّهم على الولايَهْ … على دُرورِ الخَرْجِ والجِبايَهْ
فاختارَ ذلك الإمامُ المفْضِلُ … ولم يَزَل مِن رأيهِ التفضُّلُ
ثم لوى الشيطانُ رأس جعفرِ … وصارَ منهُ نافخاً في المُنخُرِ
فَنقَضَ العُهودَ والميثاقا … واستعملَ التَّشْغِيبَ والنِّفاقا
وضمَّ أهلَ النُّكث والخلافِ … من غيرِ ما كافٍ وغيرِ وافي
فاعتاقه الخليفة ُ المُؤيَّدُ … وهو الذي يُشقى به ويُسْعَدُ
ومن عليهِ من عيونِ اللهِ … حوافظٌ من كلِّ أمرٍ داهي
فجَنَّدَ الجُنودَ والكتائِبا … وقَوَّدَ القُوَّادَ والمقَانبا
ثم غزا في أكثرِ العديدِ … مُسْتَصحَباً بالنَّصرِ والتأييدِ
حتى إذا مَرَّ بِحِصْنِ بَلدَه … خلَّفَ فيهِ قائداً في عِدَّهْ
يَمْنعُهم من انتشارِ خيلِهمْ … وحارساً في يومهم وليلهِمْ
ثم مضى يستنزلُ الحُصونا … ويَبعثُ الطُّلاَّعَ والعُيونا
حتى أتاهُ باشرٌ من بَلْدَهْ … يعدو برأسِ رأسِها في صَعْدَهْ
فقدَّمَ الخيْلَ إليها مُسرعا … واحتلَّها من يومهِ تسرُّعا
فخفَّها بالخيْلِ والرُّماة ِ … وجُملة ِ الحُماة ِ والكُماة ِ
فاطَّلعَ الرَّجْلُ على أَنقابها … واقتحمَ الجُنْدُ على أَبوابِها
فأذعنتْ ولم تكُن بمُذعِنَهْ … واسْتسلمتْ كافرة ٌ لمؤمنهْ
فقُدِّمتْ كُفّارُها للسَّيفِ … وقُتِّلوا بالحَقِّ لا بالحَيفِ
وذاكَ منْ يُمنِ الإمام المُرتضى … وخيرِ منْ بقِيَ وخيرِ منْ مَضى
ثم انتَحى مِن فَورِهِ بُبَشتَرا … فلم يَدَعْ بها قَضيباً أَخضَرا
وحطَّمَ النباتَ والزُّروعا … وهتَّكَ الرِّباع والرُّبوعا
فإذْ رأى الكلبُ الذي رآهُ … من عزْمهِ في قَطْع مُنْتواهُ
ألقى إليهِ باليدينِ ضارِعا … وسالَ أن يُبقي عليه وادِعا
وأنْ يكونَ عاملاًفي طاعتهْ … على دُرورِ الخَرْجِ مِن جبايتِهِ
فَوثِّقَ الإمامُ من رِهانِهْ … كيلا يكونَ في عمى ً من شانِهْ
وقَبِلَ الإمامُ ذاكَ مِنْهُ … فضلاً وإحساناً وسارَ عنهُ
ثم غزا الإمامُ دارَ الحربِ … فكانَ خَطباً يا لهُ من خَطبِ
فحُشِّدت إليهِ أَعلامُ الكُوَرْ … ومن لهُ في النَّاسِ ذكرٌ وخطرْ
إلى ذَوي الدِّيوانِ والرَّاياتِ … وكُلِّ مَنْسوبٍ إلى الشَّاماتِ
وكُلِّ مَن أَخلصَ للرّحمانِ … بطاعة ٍ في السرِّ والإعلانِ
وكُلِّ مَن طاوعَ في الجهادِ … أو ضمَّهُ سَرْجٌ على الجيادِ
فكانَ حَشداً يا لهُ من حَشدِ … من كلِّ حُرٍّ عندنا وعَبدِ
فتحسبُ الناسَ جراداً منتشرْ … كما يقولُ ربُّنا فيمن حُشِرْ
ثم مضى المُظَفَّرُ المنصورُ … على جَبينه الهُدى والنُّورُ
أَمامَهُ جُندٌ منَ الملائكهْ … آخذة ٌ لربِّها وتركهْ
حتَّى إذا فَوَّزَ في العَدوِّ … جنَّبهُ الرحمنُ كلَّ سوِّ
وأنزلَ الجزية َ والدَّواهي … على الذينَ أَشركوا باللّهِ
فزُلزلتْ أقدامُهم بالرُّعبِ … واستُنْفروا من خوفِ نارِ الحربِ
واقتَحَموا الشِّعابَ والمَكامِنا … وأسْلموا الحُصونَ والمدائنا
فما بقي من جَنَباتِ دُورِ … من بيعة ٍ لراهبٍ أو دَيْرِ
إلا وقد صَيَّرها هَباءَ … كالنَّارِ إذ وافَقتِ الأَباءَ
وزعزعتْ كتائبُ السلطانِ … لكُلِّ ما فِيها منَ البُنْيانِ
فكانَ من أوَّلِ حصْنٍ زعْزعُوا … ومن بهِ من العدوِّ أوقعوا
مدينة ٌ معروفة ٌ بوَخْشَمَهْ … فغادروها فحمة ً مُسخَّمهْ
ثم ارتقوا منها إلى حواضرِ … فغادروها مثلَ أمسِ الدَّابرِ
ثم مَضوا والعِلجُ يَحْتذيهُم … بجيشهِ يخشى ويقْتفيهمُ
حتى أتوا توّاً لوادي ديِّ … ففيهِ عفَّى الرُّشدُ سُبْلَ الغَيِّ
لما التقَوْا بمَجمعِ الجَوْزين … واجتمعتْ كتائبُ العِلجينِ
مِن أَهل ألْيون وبَنبلونَهْ … وأَهلِ أَرنيط وبَرْشلُونَهْ
تضافرَ الكُفرُ معَ الإلحادِ … واجتمعوا من سائرِ البلادِ
فاضطربوا في سَفحِ طَوْدٍ عالِ … وصَفَّفوا تَعبية َ القِتالِ
فبادرتْ إليهمُ المُقدِّمَهْ … سامية ً في خَيبها المُسوَّمهْ
ورِدُّها مُتَّصلٌ بردِّ … يُمدُّه بحرٌ عظيمُ المَدِّ
فانهزمَ العلجانِ في علاجِ … ولَبسوا ثوباً منَ العَجاجِ
كلاهما يَنظُرُ حيناً خَلفَهُ … فهو يرى في كلِّ وجْهٍ حتْفهُ
والبيضُ في إثرهم والسُّمرُ … والقتلُ ماضٍ فيهمُ والأسرُ
فلم يكُن للنَّاسِ مِنْ بَراحِ … وجاءتِ الرؤوسُ في الرِّماحِ
فأمرَ الأَميرُ بالتَّقْويضِ … وأسرعَ العسكرُ في النُّهوضِ
فصادفوا الجُمهورَ لما هزموا … وعايَنوا قُوَّادَهم تُخُرِّمُوا
فدخلوا حديقة ً للموتِ … إذ طَمعوا في حصْنها بالفَوتِ
فيا لها حديقة ً ويا لها … وافتْ بها نفوسُهم آجالَها
تحصَّنوا إذ عايَنوا الأَهوالا … لمَعقلٍ كان لهم عِقالا
وصَخرة ٍ كانت عليهم صَيْلما … وانقلبوا منها إلى جَهنَّما
تَساقطوا يَستطعمونَ الماءَ … فأُخرجتْ أَرواحُهم ظِماءَ
فكم لسيفِ اللهِ من جزورِ … في مأدبِ الغربانِ والنُّسورِ
وكم به قتلى منَ القساوسِ … تندبُ للصُّلبانِ والنَّواقسِ
ثم ثنى عنانهُ الأميرُ … وحولهُ التهليلُ والتَّكبيرُ
مُصمِّماً بحربِ دارِ الحربِ … قُدَّامَهُ كتائبٌ من عُرْبِ
فداسَها وسامَها بالخسْفِ … والهتْكِ والسَّفكِ لها والنَّسْفِ
فحرَّقوا ومَزَّقوا الحُصونا … وأسْخنوا من أَهلها العُيونَا
فانظرُ عنِ اليمينِ واليسارِ … فما تَرى إلاَّ لهيبَ النَّارِ
وأصبحتْ ديارُهم بلا قعا … فما نَرى إلاَّ دُخاناً ساطِعا
ونُصر الإمامُ فيها المُصطفى … وقد شفى من العدوِّ واشتفى
وبعدها كانت غَزاة ُ طُرَّشْ … سما إليها جيشهُ لم يُنْهَشُ
وأحدقتْ بحصنها الأفاعي … وكلُّ صلّ أَسْودٍ شُجاعِ
ثم بَنى حِصْناً عليها راتبا … يَعْتَوِرُ القُوَّادَ فيهِ دائبا
حتى أنابتْ عَنوة ً جنانُها … وغابَ عن يافوخها شَيطانُها
فأَذْعنتْ لسيِّدِ السَّاداتِ … وأكرمِ الأحياءِ والأمواتِ
خليفة ِ اللّه على عِبادِهِ … وخيْرِ مَنْ يَحكم في بلادِهِ
وكانَ موتُ بدرٍ ابنِ أحمدِ … بعدَ قُفولِ المِلكِ المُؤيَّدِ
واستحجبَ الإمامُ خيْرَ حاجبِ … وخيرَ مصحوبٍ وخيرَ صاحبِ
موسى الأغرَّ من بني حُدَيرِ … عَقيدَ كُلِّ رأفة ٍ وخَيرِ
وبعدها غَزاة ُ عشْرِ غَزْوَهْ … بها افتتاحُ منتلون عَنوَهْ
غزا الإمامُ في ذوي السُّلطانِ … يَؤُمُّ أَهلَ النُّكْثِ والطُّغيانِ
فاحتلَّ حِصْنَ منتلونَ قاطعا … أسبابض من أصبحَ فيه خالعا
سارَ إليهِ وبَنَى عليهِ … حتى أتاهُ مُلقياً يديْهِ
ثم انثنى عنه إلى شَذُونَهْ … فعاضَها سَهلاً من الحُزونَهْ
وساقَها بالأهلِ والولدانِ … إلى لُزومِ قُبَّة ِ الإيمانِ
ولم يدعْ صَعْباً ولا مَنيعا … إلاَّ وقد أَذلَّهمْ جميعا
ثم انثنى بأطيبِ القفولِ … كما مضى بأحسنِ الفُضُولِ
وبعدها غزاة ُ إحدى عشرَهْ … كم نَبَّهتْ من نائمٍ في سَكْرَهْ
غزا الإمامُ ينْتحي بُبَشْترا … في عسْكرٍ أَعظِمْ بذاكَ عَسْكرا
فاحتلَّ من بُبَشْترا ذراها … وجالَ في شاطٍ وفي سواها
فخرَّب العُمرانَ من بُبشْتَرِ … وأَذعنتْ شاطٌ لربِّ العَسكرِ
فأدخلَ العُدَّة َ والعديدا … فيها ولم يَتركْ بها عَنِيدا
ثم انتَحى بعدُ حُصونَ العُجْمِ … فداسها بالقَضْمِ بعدَ الخضْمِ
ما كانَ من سواحِلِ البُحورِ … منها وفي الغاباتِ والوُعورِ
وأدخلَ الطاعة َ في مكانِ … لم يدْرِ قطُّ طاعة َ السُّلطانِ
ثم رَمى الثغرَ بخيرِ قائدِ … وذادهم عنه بخيرِ ذائدِ
به قما اللهُ ذوي الإشراكِ … وأنقذَ الثغرَ من الهلاكِ
وانتاشَ من مَهْواتِها تُطِيلَهْ … وقد جرت دماؤُها مطلُولهْ
وطهَّرَ الثَّغرَ وما يليهِ … من شيعة ِ الكلإفر ومن ذويهِ
ثم انثنى بالفتحِ والنجاحِ … قد غيَّرَ الفسادَ بالصلاحِ
وبعدها غزاة ُ اثنتيْ عَشَرَهْ … وكم بها من حسْرَة ٍ وعِبرَهْ
غزا الإمامُ حوله كتائبُه … كالبدْرِ محفوفاً به كواكبُه
غزا وسيفُ النَّصر في يَمينه … وطالعُ السَّعدِ على جَبينهِ
وصاحبُ العسكرِ والتَّدبيرِ … موسى الأغرُّ حاجبُ الأميرِ
فدمَّر الحُصونَ من تُدْمِيرِ … واستنزلَ الوحشَ من الصُّخورِ
فاجتمعتْ عليهِ كُلُّ الأمَّة … وبايعتْهُ أُمَراءُ الفِتْنهْ
حتى إذا أَوعبَ من حُصونها … وجَمَّلَ الحقَّ على متونِها
مَضى وسارَ في ظلالِ العَسكَرِ … تحتَ لواءِ الأسد الغَضَنْفَرِ
رجالُ تُدميرٍ من يَليهمُ … من كلِّ صِنفٍ يُعتزى إليهمُ
حتى إذا حَلَّ عَلى تُطيلَهْ … بكتْ على دمائِها المَطْلولَهْ
وعظْمِ ما لاقتْ من العدوِّ … والحربِ في الرَّواحِ والغُدوِّ
فهمَّ أن يُديخَ دار الحربِ … وأن تكونَ رِدْأهُ في الدَّربِ
ثم استثارَ ذا النُّهى واالحِجْرِ … من صحْبه ومن رجالِ الثَّغْرِ
فكُلُّهم أَشارَ أَنْ لا يُدْرِبا … ولا يجوزَ الجبلَ المُوشَّبا
لأَنه في عسكر قد انخرَمْ … بنَدْبِ كلِّ العُرفاءِ والحَشمْ
وشَنَّعوا أنَّ وراءَ الفَجِّ … خمسينَ ألفاَ من رجالِ العِلْجِ
فقالَ: لابُدَّ من الدُّخولِ … وما إلى حاشاهُ من سبيلِ
وأن أُديخَ أرضَ بَنْبلونَهْ … وساحَة َ المدينة ِ الملْعُونَهْ
وكانَ رأَياً لم يكُنْ من صاحبِ … ساعدهُ عليهِ غيرُ الحاجبِ
فاسْتَنصرَ اللهَ وعَبَّى ودَخَلْ … فكان فتحاً لم يكنْ لهُ مَثَلْ
لما مَضى وجاوزَ الدُّروبا … وادَّرع الهيْجاءَ والحُروبا
عبَّى لهُ عِلْجٌ منَ الأَعلاجِ … كتائباً غطَّتْ على الفِجاجِ
فاستنصرَ الإمامُ ربَّ النَّاسِ … ثم استعانَ بالنَّدى والباسِ
وعاذَ بالرَّغْبة ِ والدُّعاءِ … واستنزلَ النصرَ منَ السماءِ
فقدَّمَ القُوَّادَ بالحُشودِ … وأَتْبعَ المدودَ بالمُدودِ
فانهزمَ العِلجُ وكانتْ مَلْحَمهْ … جاوزَ فيها الساقة ُ المُقدِّمهْ
فَقُتِّلوا مَقْتلَة َ الفَناءِ … فارتوتِ البِيضُ منَ الدِّماءِ
ثمَّ أمالَ نحوَ بَنْبلونَه … واقتحمَ العسكرُ في المدينَهْ
حتى إذا جاسوا خلالَ دورِها … وأسرع الخرابُ في معْمورها
… إذْ جَعلتْ تدُقُّها الحوافِرُ
لِفَقْدِ من قتَّلَ من رِجالِها … وذُلِّ من أيْتمَ من أطفالها
فكم بها وحولها من أغلفِ … تَهمي عليه الدمعَ عينُ الأَسْقُفِ
وكم بها حقَّرَ من كنائسِ … بدَّلتِ الآذانُ بالنَّواقِسِ
يَبكي لها الناقوسُ والصَّليبُ … كلاهما فرضٌ لهُ النَّحيبُ
وانصرفَ الإمامُ بالنَّجاحِ … والنصرِ والتأييدِ والفَلاحِ
ثمَّ ثنى الراياتِ في طريقهِ … إلى بني ذي النونِ من توفيقهِ
فأصبحوا من بَسطهِم في قبْضِ … قد أُلصقت خدودُهم بالأَرضِ
حتى بَدَوْا إليهِ بالبرهانِ … من أكبرِ الآباءِ والوِلْدانِ
فالحمدُ للّهِ على تأييدِه … حمداً كثيراً وعلى تسديدِه
ثم غزا بيُمنهِ أشُونا … وقد أشادوا حولها حُصونا
وحَفَّها بالخيل والرجالِ … وقاتَلوهُم أبلغَ القِتالِ
حتى إذا ما عاينُوا الهلاكا … تَبادروا بالطَّوعِ حينذاكا
وأسلموا حِصْنَهُمُ المنيعا … وسَمحوا بِخَرْجِهم خُضوعا
وقبلَهم في هذه الغَزاة ِ … قد هُدِّمتْ معاقلُ العُصاة ِ
وأحكمَ الإمامُ في تدبيرهِ … على بني هابلَ في مَسيرهِ
ومَن سِواهم من ذوي العشيرَهْ … وأُمراءِ الفتنة ِ المُغيرة
إذ حُبسوا مُراقباً عليهمُ … حتى أتوا بكلِّ ما لديهمُ
مِنَ البنينَ والعِيالِ والحشمْ … وكُلِّ من لاذَ بهمْ من الخَدَمْ
فَهبَطُوا من أَجمَعِ البُلدانِ … وأُسكِنوا مدينة َ السلطانِ
فكانَ في آخرِ هذا العامِ … بعد خُضوعِ الكُفرِ للإسلامِ
مَشاهدٌ من أعظمِ المشاهدِ … على يدي عبد الحميدِ القائدِ
لما غزا إلى بني ذي النُّون … فكانَ فَتحاً لم يَكُن بالدُّونِ
إذا جاوزوا في الظُّلم والطُّغيانِ … بقَتْلهم لعامِلِ السُّلطانِ
وحاولوا الدُّخولَ في الأذيَّة ِ … حَتى غَزاهُمْ أَنجدُ البريَّة ِ
فعاقَهُم عنْ كلِّ ما رجَوْهُ … بنَقْضهِ كُلَّ الذي بَنَوْهُ
وضَبْطِهِ الحِصْنَ العَظيمَ الشانِ … أشتبينَ بالرَّجْلِ وبالفُرسانِ
ثم مضى الليثُ إليهم زحفا … يختطفُ الأرواحَ منهم خطْفا
فانهزموا هزيمة ً لن تُرفَدا … وأسلموا صِنْوهُم مُحمدا
وغيرهُ من أوْجُهِ الفُرسانِ … مُغرِّبٌ في مأتمِ الغِرْبانِ
مُقطَّعَ الأوصالِ بالسَّنابِكِ … من بعدِ ما مُزقٍ بالنَّيازِكِ
ثم لجوا إلى طِلاب الأمنِ … وبَذْلهم ودَائعاً من رَهْنِ
فَقُبضتْ رِهانُهُمْ وأُمِّنوا … وأَنْفَضوا رُؤوسَهُم وأَذْعُنوا
ثم مضى القائدُ بالتأبيدِ … والنَّصر في ذي العَرْش والتَّسديدِ
حتى أتى حصْنَ بني عِمارهْ … والحرْبُ بالتَّدْبير والإدَارَهْ
فافتتحَ الحِصْنَ وخَلَّى صاحبَهْ … وأَمَّنَ النَّاسَ جميعاً جانِبَهْ
… واعْتَوَرت بُبَشْترا أجنادُهُ
فكلُّهم أَبلَى وأَغنَى واكتَفى … وكُلُّهم شفى الصُّدورَ واشْتفى
ثم تلاهُمْ بعدُ ليثُ الغيلِ … عبدُ الحميد من بني بسيلِ
هو الذي قامَ مقامَ الضَّيغَمِ … وجاءَ في غزاتهِ بالصَّيلَمِ
برأسِ جالوتَ النِّفاقِ والحسَدْ … من جُمِّع الخنزيرُ فيه والأسدْ
فهاكَهُ مع صَحبهِ في عِدَّة ِ … مُصلَّبين عند باب السُّدَّة ِ
قدِ امتطى مطيَّة ً لا تبرحُ … صائمة ً قائمة ً لا تَرْمَحُ
مطيَّة ً إنْ يَعْرُها انْكسارُ … يُطِبُّها النَّحَّارُ لا البَيطارُ
كأَنه من فَوقها أُسْوَارُ … عيناهُ في كِلتيهما مِسمارُ
مباشراً للشمسِ والرياحِ … على جوادٍ غير ذي جماحِ
يقولُ للخاطرِ بالطَّريقِ … قولَ مُحِبٍّ ناصِحٍ شَفِيقِ:
هذا مقامُ خادمِ الشيطانِ … ومَن عَصى خليفَة َ الرحمن
فما رأَينا واعظاً لا يَنْطِقُ … أصدقَ منه في الذي لا يصدُقُ
فقلُ لمن غُرَّ بسُوءِ رائِهِ … يَمُتْ إذا شاءَ بمثلِ دائِهِ
كم مارقٍ مضى وكمْ مُنافقِ … قدِ ارتقى في مِثلِ ذاكَ الحالِقِ
وعادَ وهوَ في العَصا مُصلَّبُ … ورأَسُهُ في جِذْعهِ مُركَّبُ
فكيفَ لا يعتبرُ المخالفُ … بحالِ من تطلبهُ الخلائفُ
… معتبراً لمن يَرى ويسمعُ
فيها غزا مُعتزماً بُبَشْترا … فجالَ في ساحَتها ودمَّرا
ثم غزا طلْجيرة ً إليها … وهي الشجى من بين أخدعَيْها
وامتدَّها بابنِ السَّليم راتبا … مشمِّراً عن ساقهِ مُحاربا
حتى رأى حفْصٌ سبيلَ رُشدِهِ … بعد بلوغِ غاية ٍ من جُهدِهِ
فدانَ للإمام قصداً خاضعاً … وأَسلَم الحِصنَ إليه طائعا
… فَرمَّها بما رَأَى ودَبَّرا
واحتلَّها بالعزِّ والتمكينِ … ومحْوِ آثارِ بني حَفْصونِ
وعاضَها الإصلاحَ من فسادهمْ … وطهَّرَ القبورَ من أجسادهمْ
حتى خلاَ مَلْحودُ كُلِّ قبرِ … مِن كلِّ مُرتَدٍّ عظيمِ الكُفْرِ
عصابة ٌ مِن شيعة ِ الشَّيطانِ … عدوَّة ٌ للهِ والسلطانِ
فخُرِّمتْ أجسادُها تخرُّما … وأُصليتْ أَرواحُهم جَهنَّما
ووجَّه الإمام في ذا العام … عبدَ الحميدِ وهو كالضِّرغام
إلى ابن داودَ الِذي تَقلَّعا … في جَبلَيْ شَذونَة ٍ تمنَّعا
فحطَّه منها إلى البسيطِ … كطائرٍ آذنَ بالسُّقوطِ
ثم أتى به إبى الإمام … إلى وفيِّ العهدِ والذِّمامِ
… غزا بَطَلْيَوْسَ وما يليها
فلم يزلْ يَسومُها بالخسْفِ … ويَنْتحيها بسُيوفِ الحَتْفِ
حتى إذا ما ضَمَّ جانِبَيْها … مُحاصِراً ثم بنى علَيْها
خلَّى ابنَ إسحاقٍ عليها راتباً … مُثابراً في حَرْبِهِ مُواظبا
ومرَّ يَسْتَقصي حُصونَ الغَرْبِ … ويَبتليها بوَبيلِ الحَرْبِ
حتى قَضَى مِنهُنَّ كُلَّ حاجَهْ … وافُتِحَتْ أَكْشُونَيه وباجَه
وبعدَ فتْح الغَرْبِ واستقصائِهِ … وحَسْمِه الأدواءَ من أعدائِهِ
لجَّت بَطلْيوسُ على نِفاقِها … وغَرَّهااللَّجاجُ من مُرَّاقِها
حتى إذا شَافهتِ الحُتوفا … وشامتِ الرِّماحَ والسُّيوفا
دعا ابنُ مروانَ إلى السُّلطان … وجاءَه بالعَهْدِ والأَمانِ
فصارَ في توسِعة ِ الإمامِ … وساكناً في قُبَّة ِ الإسلامِ
فيها غزا بِعزْمهِ طُلَيْطِلَهْ … وامتنعوا بمَعْقلٍ لامِثلَ لَهْ
حتى بَنى جرنكشا بجَنبها … حِصْناً منيعاً كافلاً بحَرْبها
وشدَّها بابنِ سَليمٍ قائدا … مُجالداً لأَهلها مُجاهدا
فجاسها في طولِ ذاكَ العامِ … بالخَسْفِ والنَّسفِ وضَرْبِ الهامِ
ثم أتى رِدْفاً له دُرِّيُّ … في عسكرٍ قضاؤهُ مَقْضيُّ
فحاصروها عامَ تسعَ عشْرَهْ … بكلِّ مَحْبوكِ القُوى ذي مِرَّه
ثم أتاهم بعدُ بالرِّجالِ … فقاتلوهم أبلغَ القِتالِ
… من عامِ عِشْرينَ لها ثُبورُ
ألقَتْ يديها للإمامِ طائعَهْ … واستسلمت قسراً إليه باخعه
فأذعنتْ وقبلها لم تُذْعنِ … ولم تَقُدمنْ نَفْسها وتُمْكنِ
ولم تدِنْ لربِّها بدينِ … سبعاً وسَبعين منَ السِّنينِ
ومُبتدى عشرينَ مات الحاجبْ … موسى الذي كانَ الشهابَ الثاقبْ
وبرزَ الإمامُ بالتأييدِ … في عُدَّة ٍ منهُ وفي عَديدِ
صَمْداً إلى المدينة ِ اللعينَة … أَتعسَها الرحمنُ من مَدينَة
مدينة ِ الشِّقاق والنفاقِ … وموئلِ الفُسَّاق والمُرَّاقِ
حتى إذا ما كانَ مِنها بالأَممْ … وقدْ ذَكا حَرُّ الهَجير واسحتدَمْ
أتاهُ واليها وأَشياخُ البَلدْ … مُسْتسلمين للإمام المُعتمدْ
فَوافَقُوا الرَّحبَ من الإمامِ … وأنزلوا في البرِّ والإكرامِ
ووجَّه الإمامُ في الظَّهيرَه … خَيلاً لكي تدخلَ في الجَزِيرَه
جريدة ٌ في وَعْرِها وسَهلها … وذاكَ حينَ غفلة ٍ من أَهلها
ولم يكُن للقومِ من دفاعِ … بخَيلِ دريٍّ ولا امتناعِ
وقوَّضَ الإمام عند ذلكا … وقلبُه صَبٌّ بما هُنالكا
حتى إذا ما حَلَّ في المدينَهْ … وأهلُها ذليلة ٌ مَهينَهْ
أقمَعها بالخيل والرجالِ … من غيرِ ما حربٍ ولا قِتالِ
وكان من أوَّل شيءٍ نظرا … فيه وما رَوى له ودبَّرا
تهدُّمٌ لبابِها والسُّورِ … وكانَ ذاك أَحسنَ التدبيرِ
حتى إذا صيَّرها بَراحا … وعاينوا حريمَها مُباحا
أَقرَّ بالتَّشييدِ والتَّأسيسِ … في الجبل النَّمي إلى عَمْروسِ
حتى استوى فيا بناءٌ مُحكمُ … فحلَّه عاملُه والحشمُ
فعند ذاك أسلمت واستسلمتْ … مدينة ُ الدِّماء بعد ما عتتْ
فيها مضى عبدُ الحميد مُلتئمْ … في أُهبة ٍ وعُدَّة ٍ من الحَشَمْ
حتى أتى الحصنَ الذي تقلَّعا … يحيى بن ذي النُّون به وامتنعا
… من غيرِ تعْنيتٍ وغيرِ حَرْبِ
إلاَّ بترْغيبٍ له في الطاعَهْ … وفي الدخولِ مدْخلَ الجماعهْ
حتى أتى به الإمامَ راغبا … في الصَّفحِ عن ذُنوبهِ وتائبا
فصفحَ الإمامُ عن جنايتهْ … وقَبِلَ المبذولَ من إنابتِهْ
وردَّه إلى الحُصونِ ثانياً … مُسجَّلاً له عليها واليا
ثم غزا الإمامُ ذو المَجدينِ … في مُبتدا عشرينَ واثنتينِ
في فيلقٍ مُجَمهرٍ لُهامِ … مُدَكْدِكِ الرُّؤوسِ والآكامِ
حافُ الرُّبى لزَحْفه تجيشُ … تجيشُ في حافاتِهِ الجيوشُ
كأنَّهم جِنٌّ على سَعالي … وكُلُّهم أمضى منَ الرَّئبالِ
فاقتحموا مُلُندة ً ورومهْ … ومن حَواليها حصونُ حيمهْ
حتى أتاهُ المارقُ التُّجيبي … مُستجدياً كالتائِب المُنيبِ
فخصَّه الإمامُ بالترحيبِ … والصَّفحِ والغُفرانِ للذُّنوبِ
ثم حباهُ وكساهُ ووصَلْ … بشاحجٍ وصاهلٍ لا يُمتَثلْ
كلاهُما من مَرْكبِ الخلائفِ … في حِلْية ٍ تُعجِزُ وصفَ الواصفِ
وقال: كُن منَّا وأَوطنْ قُرْطبَه … نُدنيكَ فيها من أجلِّ مَرْتبه
تكنْ وزيراً أعظمَ النَّاسِ خَطَرْ … وقائداً تَجبي لنا هذا الثَّغَرْ
فقال : إني ناقِهٌ من عِلَّتي … وقد ترى تغيُّري وصُفْرتي
فإن رأيتَ سيدي إمْهالي … حتى أَرمَّ من صَلاحِ حالي
ثمَّ أُوافيكَ على استعجالِ … بالأهلِ والأولادِ والعِيالِ
وأوثق الإمامَ بالعهودِ … وجعلَ اللهَ منَ الشُّهودِ
فَقبِلَ الإمامُ من أَيمانِهِ … وردَّه عفواً إلى مكانهِ
ثم أتتهُ ربَّة ُ البشاقِصِ … تُدْلي إليه بالودادِ الخالصِ
وأنها مُرسلة ٌ من عنده … وجَدَّها متصلٌ بجَدِّهِ
واكتفلتْ بكُلِّ بَنْبلوني … وأَطلقت أَسرى بني ذي النُّونِ
فأوعدَ الإمامُ في تأمينها … ونكَّبَ العسكرَ عن حصونها
ثم مضى بالعزِّ والتَّمكينِ … وناصراً لأهلِ هذا الدِّينِ
في جُملة الراياتِ والعساكرِ … وفي رجالِ الصَّبرِ والبصائرِ
إلى عِدى اللهِ من الجلالِقِ … وعابدِي المَخلوقِ دونَ الخالِقِ
فدمَّروا السُّهولَ والقِلاعا … وهتَّكوا الرُّبوعَ والرِّباعا
وخَرَّبوا الحُصونَ والمَدائِنا … وأَنفروا من أهلها المَساكِنا
فليسَ في الدِّيارِ من ديَّارِ … ولا بها من نافخٍ للنَّارِ
فغادروا عُمرانَها خرابا … وبدَّلوا رُبوعَها يبابا
وبالقِلاعِ أَحْرقوا الحُصونا … وأسخَنوا من أُهلها العيونا
ثم ثنى الإمامُ من عِنانِهِ … وقد شفى الشَّجيَّ من أشجانهِ
وأمَّنَ القفارَ من أنجاسها … وطهَّرَ البلادَ من أرْجاسِها