رباعيات – إبراهيم ناجي
صيرَك الحسن أميرَ الوجودِ … والشعر من درّاته كلّلكْ
مستلهماً منك معاني الخلود … فكل تاجٍ في العلى منك لكْ
فَنَاهِبٌ برقَ الثنايا العذابْ … وسارقٌ ياقوتهً من فمكْ
وكل تغريد الهوى والشبابْ … أغْنيةٌ حامت على مبسمكْ
…
وذلك الماس الرفيع السنا … والجوهر الغالي الذي صِدْتُهُ
أرفع من فكر الورى مَعْدِنا … وكل فضلي أنني ضُغْتُهُ
لا فكر لي، عشتُ على فكرتكْ … أقبس ما آقبس من غُرَّتكْ
ودمعتي تقتات من عبرتكْ … فانظر بمرآتي إلى صورتكْ
أشقاني الحبُّ وقلبي سعيدْ … يَعُدُّ هذا الدمع من أنعمكْ
أجزل ما كافأ هذا الشهيدْ … بلوغُه المجد على سُلَّمكْ
…
لا شيء من يوم النَّوى منقذي … إني امرؤٌ عنك وشيك المسيرْ
وأنت باقٍ والجمال الذي … غنّى به شعري ليومي الأخيرْ
انظر إلى آيات هذا الجمالْ … ترتدُّ عنها عاديات البلى
عاجزةَ الباع ويأبى الزوالْ … لوردةٍ مت عَدْن أن تذبلا
للأنفس الظمأى إليك التفاتْ … ولهفةٌ ملءَ اللّحاظ الجياعْ
ولي التفاتٌ لسريّ الصّفات … واللؤلؤِ اللمّاح خلف القناعْ
قلبي مع الناس وفكري شَرودْ … في عالَمٍ رَحْبٍ بعيد الشِّعابْ
عيني على سرٍّ وراء الوجود … وبغيتي عرشٌ وراء السحابْ
…
كم طرت بي واجتزت سور الضبابْ … والضوء ملءُ القلب ملءُ الرحابْ
وعدت بي للأرض أرض السَّرابْ … والليلُ جهمٌ كجناح الغرابْ
أريْتُني الغيبَ الذي لا يُرى … كشفتَ لي ما لا يراء البصرْ
ثم انحدرنا نستشفُّ الثرى … علّ وراءَ التُّرب سرَّ السفرْ
صدري وسادٌ زاخرٌ بالحنانْ … تصوُّري أعجب ما في الزمانْ
موج على لُجَّته خافقان … قَرَّا على أرجوجةٍ من أمانْ
كمركب في البحر يومَ اغتربْ … ما أبعد المحنة بعد اقترابْ
هيهات يُنْجِي من شطوط العذابْ … إلاّ عبابٌ دافقٌ في عبابْ
…
ملأتُ كأسي وانتظرتُ النديم … فما لساقي الرُّوح لا يُقبلُ
شوقي جحيمٌ وانتظاري جحيم … أقلُّ ما في لفْحِهِ يتقلُ
أنت كريمُ الودِّ حُلوُ الوفاءْ … فما الذي عَاقَكَ هذا المساءْ؟
وما الذي أخَّر هذا اللقاءْ … وحرَّم النبع وصدَّ الظِماءْ؟
…
أذمّ هذا الوقت في بُطْئِهِ … آخرهُ يعثرُ في بَدْئِهِ
تدقُّ فيه ساعةٌ لا تدورْ … وإن تَدُرْ فهو صراعُ اللغوبْ
رنينها يقلق صمَّ الصدورْ … وطَرْقُها يقرع بابَ القلوبْ
يا ذاهباً لم يشْف مني الغليل … ما أسرع العقربَ عند الرحيلْ
هتفتُ قف لم يبق إلاّ القليلْ … وكلُّ حيٍّ سائرٌ في سبيلْ
…
يومٌ تولّى أو ظلامٌ سجا … كلاهما بالقرب منك انتصارْ
أأحمد اليوم تلاه الدُّجى … أم أحمد الليل تلاه النهارْ؟
إنْ نَوَّر النجمُ به مرَّةً … فإن إشراقَكَ لي مرّتانْ
وكيف يُبقي الشكُّ لي حيرةً … ولي على برج المنى نجمتانْ؟
فهذه تلمع في خاطري … مِلءُ دمي إشراقُها والبهاءْ
وهذه تُومِئُ للساهرِ … والليل صافٍ وأديم السماءْ
…
وهذه تجلو كثيف الغيومْ … وهذه تَدْرَأُ عني الهمومْ
وتَمحق الحزنَ وتَأسُو الكلومْ … فما الذي أَجْرى دموعَ النجومْ؟
هيهات أنسى دُرَّة الأنجمِ … إليَّ من آفاقها ترتمي
وفي جريحٍ أعزلٍ تحتمي … من أي هولٍ؟ هي لم تعلمِ
إنَّ ضلوعاً تحتمي في ضلوعْ … مقادرٌ ليس بها من رجوعْ
أخلدُ أصفاد الجوى والنزوعْ … هوى الحزاني وعناق الدموعْ
رضيت بالدهر على ما جَنَى … وأُبْتُ بالحكمة بعد الجنونْ
ومرَّ يومي هادئاً ساكنا … وأَيُّ شيءٍ خادع كالسكونْ
…
أرنو إلى الصحراءِ حيث الرمالْ … نامت كأنَّ اللفحَ فيها ظلالْ
يا ليت لي والدهر حالٌ وحالْ … من وقدةِ الإحساسِ بعض الكلالْ
فأقبلِ الدنيا على حالها … مسلِّماً بالغدرِ في آلها
وراضياً عنها بأغلالها … محتملاً وطأة أثقالها
الرُّعْبُ سيّان بها والأمانْ … والحسنُ زادٌ سائغٌ للزمانْ
والوهمُ في حالاتها كالعِيان … والحبُّ والكرهُ بها توأمانْ
وَدِدْتُ لو قلبي كهذي القفارْ … أصمُّ لا يسمع ما في الديارْ
أعمى عن الليل بها والنهارْ … وددتُ لو قلبي كهذي القفارْ
وددتُ لو عنديَ جهلُ الثرى … تَعْمُر أو تقفر هذي البيوتْ
غفلان لا يعنيه أمرٌ جرى … أيُولدَ الحيُّ بها أم يموتْ
…
وليلةٍ تمضي وأخرى وما … جئتَ فهل ألهاك عني أحدْ؟
ما ضاء من ليلاتنا أظلما … والسبت خَدَّاعٌ بها كالأحدْ
يمتلئُ السطحُ على ضيقهِ … أنا الذي لم أدْرِ طعمَ الحسدْ
وذلك (الجاز) وهذا النغمْ … منتقلاً بين الرضا والألمْ
يحمل لي طيفَ خيالٍ قَدِم … تراه عيني في ثنايا حُلُمْ
…
في واحةٍ يرسو عليها الغريبْ … فكلُّ ما فيها لديه غريبْ
وهكذا الدنيا خداعٌ عجيبْ … إذا خلت أيامُها من حبيبْ
وهكذا يومٌ ويومٌ سواه … ينكرها القلبُ الصَّبورُ الحمولْ
وهكذا يذهب طِيبُ الحياهُ … بين التمني واعتذار الرسولْ
…
هنا مِهادُ الحبِّ هل تذكرينْ … وها هنا بالأمس طاب السمرْ
وتلك الأحلامُ الهوى والسنينْ … يحملها التيَّارُ فوق النهرْ
والقمرُ الفضيُّ بين الغيومْ … يخفق كالمنديل عند الوداعْ
يا حسرتا هل صوّرتهُ الهمومْ … كالزورقِ الغارقِ إلاّ شراعْ
قد جللته غيمةٌ عابرهْ … تسحبُ أذيالَ الأسى والندمْ
وأغرقتهُ موجةٌ غامرهْ … فأطبق الصمتُ وَرَانَ العدمْ
…
ضممت أضلاعي على نعشِهِ … فلم يزلْ فيها لهاوٍ شعاعْ
لأيّ غورٍ زالَ عن عرشِهِ … وغاص في اللجِّ إلى أيِّ قاعْ
أرثي لحظِّ الأفق وهو الذي … يرمقُني بالنظرة الساخرهْ
وتهرب الأنجمُ هذي وَذي … ويجثم الليلُ على القاهرهْ
ويزحف الكونُ على خاطري … كأنه في مقلة الساهر
سَدٌّ من الرُّعبِ بلا آخرِ … يعبُّ عَبُّ الأبدِ الزاخرِ
…
وفي ظلالِ الموت موتِ الوجودْ … وخلفَ أطلال البلىِ والهمو
وبين أنفاس الرّدى والخمودْ … وتحت سُحْبٍ عابساتٍ وسودْ
تدفعني عاصفةٌ عاتيهْ … تقصف من خلفي وقُدّامِيَةْ
قد مزّقت روحي وآماليَهْ … وقرّبتْ لي طرَفَ الهاويةْ
تلمع في الظلمة أحداقُها … قد رحّبَتْ باليأس أعماقُها
شافية النفس وترياقُها … مشتاقةٌ أقبل مشتاقُها
…
قد كان لي عندك عزُّ الذليلْ … وكان للآمال ومضٌ ضئيلْ
يلمع في ظَنِّي قبل الرحيلْ … فانطفأ النورُ ومات القليلْ
فداك يا جاهلةً ما بيَهْ … قلبي وأنفاسي الظمّاء الحِرارْ
وكيف أنسى ليلتي الداميَهْ … ولهفتي أَلْهَثُ خلف القطارْ؟
وعودتي أجرع كأسَ الحياه … مُعاقِراً سُمَّ الفناءِ البطيءْ
أُنْكِرُ أو أفزعُ ممن أراه … سيان من يذهب أو من يجيءْ
…
وليلةٍ فاضت بوسواسها … تعجبُ من إلْفَين بين البَشَرْ
ذلك يعدو خلف أنفاسها … وهذه تتبع سير القمرْ
تتبعه بين الرُّبى والشِّعابْ … تتبعه يسري خلال الحسابْ
كم هَلَّلَتْ وهو يضيء الرِّحابْ … والتفتَتْ محسورةً حين عابْ
…
وذلك الطفل اللهيف الغيورْ … في فَلَكِ من ضوء ليلى يدورْ
يقفو خطاها وهي بين الطيورْ … لها جناحان مراحٌ ونورْ
كزورق يعبرُ بحرَ الوجودْ … له شراعان ولحظٌ شَرُودْ
كم شرّقا أو غرّبا في صعودْ … وارتفعا حتى كأن لن يعودْ
…
ليلى ارجعي إني شقيٌّ كئيبْ … أهتف مفقودَ الهُدى والقرارْ
يا هاته الأوطان إني غريبْ … وعالمي ليس هنا يا ديارْ
تركتني وحدي وخلفتني … أرزح تحت المبْكيات الثقالْ
أنكرتِ ميثاقي وأنكرتني … أكُلُّ ماضينا وليد الخيالْ؟
…
فرغت من أحلامه وانطوى … بِمُرّهِ وارتحتُ من عذبهِ
الأمرُ ما شئتِ فذنب الهوى … على الذي يكفر يوماً بهِ
كان إلى الله سبيلي وما … كان إلى الإيمان دَرْبٌ سواهْ
وكان في جُرح الهوى بلسما … وكان عندي منحة من إلهْ
مهما تكن ناري فإنّ الجحيم … أرأفُ بي من ظلم هذا البعادْ
وربّ همّ مُقْعِدٍ أو مقيمْ … قد لطّفَتْهُ نسماتُ الودادْ
…
فخفَّتِ النارُ وقرَّ الهشيمْ … وعاودتني الذِّكَرُ الغابرهْ
والنيلُ يجري هادئاً والنَّسيمْ … معربدٌ في الخُصَل الثائرهْ
كم تهتف الأيامُ: خانت فَخُنْ … ويح حياتي إنْ تَخُنْ أمسها
إن هنتُ هذا عهدُها لم يَهُنْ … ولا لياليها وإن تنسها
تُهيب بي الفرصةُ قبل الفواتْ … ويعرض الصَّيدُ فلا أقنصُ
إني امرؤ زادي على الذكرياتْ … وما غلا عنديَ لا يرخصُ
ومطلبٍ في العمر ولَّى وفات … وكان همِّي أنه لا يفوتْ
كأن فجراً ضاحكاً فيّ ماتْ … وملءُ نفسي مغربٌ لا يموتْ
…
في السّام الحيِّ الذي لا يَبيدْ … والأملِ الطاغي بأن ترجعي
أجدِّدْ العيش وما من جديدْ … وأدّعي السلْوان ما أدّعي
كم خانني الحظُّ ولا انثني … أقضي زماني كلَّهُ في لعلْ
وتقسم المرآة لي أنني … رَقَعْتُ بالآمالِ ثوبَ الأجلْ
قد فاتني الصيفُ وخان الربيعْ … وكان همّي كلُّه في الخريفْ
وما شَكاتي حين شملي جميعْ … وانت لي أيكٌ وظلٌّ وريفْ
…
والآن قد مزّق عندي القناعْ … موتُ الأباطيل وزحف الشتاءْ
وبدَّد الوهمَ وفضَّ الخداعْ … بَرْدُ المنايا وشحوبُ الفناءْ
وأَسِفَ القلبُ لكنزي الذي … غَصّتْ به أفئدة الحُسَّدِ
صحوت من وهمي ولا كنز لي … قد صَفِرَتْ منها ومنه يدي
أين زمانٌ مُكتسٍ يومُهُ … بالحبِّ مَوْشِي بحُلْم الغدِ؟
وربما رقَّ زمانٌ قسا … فانعطف الجافي ولان الحديدْ
محقق الآمال أو واعدٌ … بفرحةٍ يوم لقاء وعيدْ
فإن يَعِدْني ثار شكّي به … كأنما وعد الليالي وعيدْ
…
وا آسفا هذا سجلٌّ كُتِبْ … خَطَّتْهٌ كفُّ القدَرِ المحتجبْ
ففيم عَوْدِي لقديم الحِقَبْ … وفيم تَسْآليَ عمّا ذهبْ؟
ضاقت بنا مصرُ وضقنا بها … وكلُّ سهلٍ فوقها اليوم ضاقْ
وضاقتِ الدنيا على رحبِها … أين نداماي وأين الرفاقْ؟
كفٌّ تَلُمُّ العمرَ والعُمرُ راحْ … وقبضةٌ تجمع شملَ الرياحْ
لا حَبَبٌ باقٍ ولا ظل راح … ليلٌ تولَّى وتولَّى صباحْ
هذا نهارٌ مات يا للنَّهارْ … كل مساءٍ مصرعٌ وانهيارْ
مال جدارُ النورِ بعد انحدارْ … وغابتِ الشمسُ وراءَ الجدارْ
…
وذا مساءٌ صبغتْهُ الهمومْ … بلونها القاني وهذي غيومْ
تحوم والظلمةُ فيها تحومْ … تبسط مهداً ليّناً للنجومْ
كأن ثوباً في السماء احتراقْ … فلم يزل حتى استحال الأفقْ
ظلُّ دخانٍ أو بقايا رمقْ … ولمَ يعُد إلاَّ ذيولُ الشفقْ
وتزحف الظلماءُ زحفَ المُغيرْ … حاجبةً ما دونها كالسِّتارْ
وكل حيٍّ وادعٌ أو قريرْ … ما اختلف الشأن ولا الحظّ دارْ
العيشُ أمرٌ تافهٌ والمنونْ … والحكمةُ الكبرى بها كالجنونْ
وهكذا نمضي وتمضي السنونْ … وهكذا دارتْ رحاها الطحونْ
في شَجِّهَا حيناً وفي طَعْنِها … سينقضي العمرُ وأين الفرار؟
وثورةُ الشاكين من طحنِها … نوحُ الشظايا وعتابُ الغُبارْ