حاشى الرقيب فخانته ضمائره – المتنبي

حاشَى الرّقيبَ فَخانَتْهُ ضَمائِرُهُ … وَغَيّضَ الدّمْعَ فانهَلّتْ بَوادِرُهُ

وكاتمُ الحُبّ يَوْمَ البَينِ مُنهَتِكٌ … وصاحبُ الدّمعِ لا تَخفَى سرائرُهُ

لَوْلا ظِباءُ عَدِيّ ما شُغِفْتُ بهِمْ … وَلا برَبْرَبِهِمْ لَوْلا جَآذِرُهُ

من كلّ أحوَرَ في أنْيابِهِ شَنَبٌ … خَمْرٌ يُخَامِرُها مِسكٌ تُخامِرُهُ

نُعْجٌ مَحاجِرُهُ دُعْجٌ نَواظِرُهُ … حُمْرٌ غَفائِرُهُ سُودٌ غَدائرُهُ

أعَارَني سُقْمَ عَينَيْهِ وَحَمّلَني … منَ الهَوَى ثِقْلَ ما تَحوي مآزِرُهُ

يا مَنْ تَحَكّمَ في نَفسي فعَذّبَني … وَمَنْ فُؤادي على قَتلي يُضافِرُهُ

بعَوْدَةِ الدّوْلَةِ الغَرّاءِ ثَانِيَةً … سَلَوْتُ عَنكَ ونامَ اللّيلَ ساهرُهُ

منْ بَعدِ ما كانَ لَيلي لا صَباحَ لَهُ … كأنّ أوَّلَ يَوْمِ الحَشْرِ آخِرُهُ

غابَ الأميرُ فَغابَ الخيرُ عَنْ بَلَدٍ … كادَتْ لفَقْدِ اسمِهِ تَبكي مَنابِرُهُ

قدِ اشتَكَتْ وَحشَةَ الأحياءِ أرْبُعُهُ … وَخَبّرَتْ عَن أسَى المَوْتَى مَقابرُهُ

حتى إذا عُقِدَتْ فيه القِبابُ لَهُ … أهَلّ لله بادِيهِ وحاضِرُهُ

وَجَدّدَتْ فَرَحاً لا الغَمُّ يَطْرُدُهُ … وَلا الصّبابةُ في قَلْبٍ تُجاوِرُهُ

إذا خَلَتْ منكَ حمصٌ لا خلتْ أبداً … فَلا سَقَاها مِنَ الوَسميّ باكِرُهُ

دَخَلْتَها وشُعاعُ الشّمسِ مُتّقِدٌ … ونُورُ وَجْهِكَ بينَ الخلْقِ باهرُهُ

في فَيْلَقٍ مِنْ حَديدٍ لوْ قَذَفتَ بهِ … صرْفَ الزّمانِ لمَا دارَتْ دَوائِرُهُ

تَمضِي المَواكبُ والأبصارُ شاخصَةٌ … منها إلى المَلِكِ المَيْمُونِ طائِرُهُ

قَدْ حِرْنَ في بَشَرٍ في تاجِهِ قَمَرٌ … في دِرْعِهِ أسَدٌ تَدْمَى أظافِرُهُ

حُلْوٍ خَلائِقُهُ شُوسٍ حَقائِقُهُ … تُحصَى الحَصَى قَبلَ أنْ تُحصَى مآثرُهُ

تَضيقُ عن جَيشه الدّنيا ولوْ رَحُبتْ … كصَدْرِهِ لم تَبِنْ فيها عَساكِرُهُ

إذا تَغَلْغَلَ فكرُ المرءِ في طَرَفٍ … من مَجْدِهِ غَرِقَتْ فيه خَواطِرُهُ

تَحْمَى السّيوفُ على أعدائِهِ مَعَهُ … كأنّهُنّ بَنُوهُ أوْ عَشائِرُهُ

إذا انْتَضَاها لحرْبٍ لمْ تَدَعْ جَسَداً … إلاّ وباطِنُهُ للعَينِ ظاهِرُهُ

فَقَدْ تَيَقّنّ أنّ الحَقّ في يَدِهِ … وَقَدْ وَثِقْنَ بأنّ الله نَاصِرُهُ

تَرَكْنَ هَامَ بَني عَوْفٍ وثَعْلَبَةٍ … على رُؤوسٍ بلا ناسٍ مَغَافِرُهُ

فخاضَ بالسّيفِ بحرَ المَوْتِ خَلفَهُمُ … وكانَ منهُ إلى الكَعْبَينِ زاخِرُهُ

حتى انتهَى الفرَسُ الجاري وما وَقعَتْ … في الأرضِ من جِيَفِ القتلى حوافرُهُ

كَمْ مِنْ دَمٍ رَوِيَتْ منهُ أسِنّتُهُ … وَمُهْجَةٍ وَلَغَتْ فيها بَواتِرُهُ

وحائِنٍ لَعِبَتْ شُمُّ الرّماحِ بهِ … فالعَيشُ هاجِرُهُ والنّسرُ زائِرُهُ

مَنْ قالَ لَسْتَ بخَيرِ النّاسِ كلِّهِمِ … فجَهْلُهُ بكَ عندَ النّاسِ عاذرُهُ

أوْ شَكّ أنّكَ فَرْدٌ في زَمانِهِمِ … بلا نَظِيرٍ فَفي روحي أُخاطِرُهُ

يا مَنْ ألُوذُ بِهِ فيمَا أُؤمّلُهُ … وَمَنْ أعُوذُ بهِ مِمّا أُحاذِرُهُ

وَمَنْ تَوَهّمْتُ أنّ البَحرَ راحَتُهُ … جُوداً وأنّ عَطاياها جَواهِرُهُ

لا يَجْبُرُ النّاسُ عَظْماً أنْتَ كاسِرُهُ … وَلا يَهيضُونَ عَظْماً أنتَ جابِرُهُ