جللا كما بي فليك التبريح – المتنبي

جَلَلاً كمَا بي فَلْيَكُ التّبْريحُ … أغِذاءُ ذا الرّشإِ الأغَنّ الشّيحُ

لَعِبَتْ بمَشيَتِهِ الشَّمولُ وغادرَتْ … صَنَماً منَ الأصنامِ لَوْلا الرّوحُ

ما بالُهُ لاحَظْتُهُ فتَضَرّجَتْ … وَجنَاتُهُ وفُؤادِيَ المَجْرُوحُ

وَرَمَى وما رَمَتَا يَداهُ فَصابَني … سَهْمٌ يُعَذِّبُ والسّهامُ تُريحُ

قَرُبَ المَزَارُ ولا مَزارَ وإنّما … يَغدو الجَنانُ فَنَلْتَقي ويَرُوحُ

وفَشَتْ سَرائرُنا إلَيكَ وشَفّنا … تَعريضُنا فبَدا لَكَ التّصريحُ

لمّا تَقَطّعَتِ الحُمُولُ تَقَطّعَتْ … نَفْسِي أسًى وكأنّهُنّ طُلُوحُ

وَجَلا الوَداعُ من الحَبيبِ مَحاسِناً … حُسْنُ العَزاءِ وقد جُلينَ قَبيحُ

فَيَدٌ مُسَلِّمَةٌ وطَرْفٌ شاخِصٌ … وحَشاً يَذوبُ ومَدْمَعٌ مَسفُوحُ

يجدُ الحَمامُ ولوْ كوَجدي لانْبَرَى … شَجَرُ الأراكِ مَعَ الحَمامِ يَنُوحُ

وأمَقَّ لوْ خَدَتِ الشّمالُ براكِبٍ … في عَرْضِهِ لأناخَ وَهْيَ طَليحُ

نازَعْتُهُ قُلُصَ الرّكابِ ورَكْبُها … خَوْفَ الهَلاكِ حُداهُمُ التّسبيحُ

لَوْلا الأميرُ مُساوِرُ بنُ مُحَمّدٍ … ما جُشّمَتْ خَطَراً وَرُدّ نَصِيحُ

ومتى وَنَتْ وأبُو المُظَفَّرِ أمُّها … فأتاحَ لي وَلَها الحِمامَ مُتِيحُ

شِمْنا وما حُجِبَ السّماءُ بُرُوقَهُ … وحَرًى يَجُودُ وما مَرَتْهُ الرّيحُ

مَرْجُوُّ مَنْفَعَةٍ مَخُوفُ أذِيّةٍ … مَغْبُوقُ كأسِ مَحامِدٍ مَصبوحُ

حَنِقٌ على بِدَرِ اللُّجَينِ وما أتَتْ … بإساءَةٍ وعَنِ المُسِيءِ صَفُوحُ

لَوْ فُرّقَ الكَرَمُ المُفَرِّقُ مالَهُ … في النّاسِ لم يَكُ في الزّمانِ شَحيحُ

ألْغَتْ مَسامِعُهُ المَلامَ وغادَرَتْ … سِمَةً على أنْفِ اللّئَامِ تَلُوحُ

هذا الذي خَلَتِ القُرُونُ وذِكْرُهُ … وحَديثُهُ في كُتْبِها مَشْرُوحُ

ألْبابُنا بِجَمَالِهِ مَبْهُورَةٌ … وسَحابُنا بِنَوالِهِ مَفضُوحُ

يَغشَى الطّعانَ فَلا يَرُدّ قَنَاتَهُ … مكسُورَةً ومِنَ الكُماةِ صَحيحُ

وعلى التّرابِ منَ الدّماءِ مَجاسِدٌ … وعلى السّماءِ منَ العَجاجِ مُسُوحُ

يَخْطُو القَتيلَ إلى القَتيلِ أمَامَهُ … رَبُّ الجَوادِ وخَلْفَهُ المَبْطُوحُ

فمَقيلُ حُبّ مُحبّه فَرِحٌ بِهِ … ومَقيلُ غَيظِ عَدُوِّهِ مَقْرُوحُ

يُخْفي العَداوَةَ وهيَ غَيرُ خَفِيّةٍ … نَظَرُ العَدُوّ بِمَا أسَرّ يَبُوحُ

يا ابنَ الذي ما ضَمّ بُرْدٌ كابنِهِ … شَرَفاً ولا كالجَدّ ضَمّ ضَريحُ

نَفْديكَ من سَيْلٍ إذا سُئِلَ النّدَى … هَوْلٍ إذا اخْتَلَطا دَمٌ ومَسيحُ

لَوْ كُنتَ بحراً لم يكُنْ لكَ ساحِلٌ … أو كنتَ غَيثاً ضاقَ عنكَ اللُّوحُ

وخَشيتُ منكَ على البِلادِ وأهلِها … ما كانَ أنذَرَ قَوْمَ نُوحٍ نُوحُ

عَجْزٌ بِحُرٍّ فَاقَةٌ وَوَراءَهُ … رِزْقُ الإلهِ وبابُكَ المَفْتُوحُ

إنّ القَرِيضَ شَجٍ بِعطْفي عائِذٌ … من أنْ يكونَ سَوَاءَكَ المَمْدوحُ

وذَكيّ رائحَةِ الرّياضِ كَلامُها … تَبْغي الثّنَاءَ على الحَيَا فَتَفُوحُ

جُهْدُ المُقِلّ فكَيفَ بابنِ كَريمَةٍ … تُوليهِ خَيراً واللّسانُ فَصيحُ