بومة عاشقة في ليل الحبر – غادة السمان
هل يتلوني الليل على مسامع الصبايا في دمشق،
قائلاً إنني كنت مثلهن، عاشقة ترادف الجنون..
ونحلة، لدغها كل من صنعَتِ العسل لأجله؟
تتدلى أيامي هناك من سقوف الذاكرة كمناديل ملونة..
متوحشة كنت، مهرة برية تصهل في سفوح قاسيون..
تغسل جموحها في نهر بردى وتحلم بنهر السين..
وها أنا اليوم أصهل على ضفاف السين،
وأحلم ببردى ودجلة والفرات والنيل.. والليطاني..
امرأة تزهو بآلاف الطعنات
ترصع صدرها بوسام الذبحة القلبية
وفي قاعها حجرات بملايين المرايا..
لكنها لا تزال تميز وجهها الحقيقي...
... كأية بومة لا تصلح لأقفاص طيور الزينة،
همت في ليل الأٍسرار، لأتعلّم
كيف يصير اسمي سواراً في معصم العشاق
ولمسة حنان في ذاكرة أهل الحزن والتشرد والتمرد..
ما هو اسمي، إذا لم أسمع قارئاً
يتلوه في مكتبة سائلاً عن حرفي؟
كيف أتحول إلى رياح لا تصدأ
إذا لم يهب اسمي من صدور مجانين الحرية؟..
مرة هدّدتني جدتي بـ "لقمة الزقوم" إذا كذبت..
ومن يومها وأنا أقول الصدق في حضرة الورقة المقدسة...
وحين حاولتْ عجائز الأسرة قص لساني
وإطعامه للقطة كي أصير "شامية" نموذجية،
لففت صدقي حولي كالكفن، وركضت في كتاب دمشق..
كغلطة مطبعية فات أوان تصحيحها، أو إعدامها..
ما أعذب الفراق الطويل...
يظل الذي أحببناهم شباناً في ذاكرتنا..
والمدينة تظل كما عرفناها محفوظة في صناديق الماضي...
بيوتها العتيقة، أزقتها، أبوابها القديمة اللامنسية
لم تداهمها لعنة الإسمنت المسلح بالقسوة واللامبالاة
وعربدة الأبنية العصرية على رفات الأجداد..
وتظل أنت كما عرفتك، جميلاً وخائناً ومعشوقاً ووغداً...
وبردى ما زال يركض بين بيتي العتيق و "بحرة" ديارك،
ومياهه ما تزال تغرورق في أحلامي .. وعيني.. كصورتك..
تزوج الحنان من الحجر
فولدت بيوت تنحني على أهلها كرحم
في أزقة متلاصقة الشفاه كهمس العشّاق
قرب "باب توما" و "الشاغور" و "القصّاع" و "سوق ساروجة"..
والذهب الضوئي،
يسيل من قباب الجامع الأموي وستي زينب
ومن جرس كنيسة القديس بولص وآثار أقدامه حتى روما..
دمشق زهو الورد الجوري، في خدود صبايا
يقاتلن طواحين الهواء، ويربحن الخسارة المضيئة..
لا تشهري عليّ سيف الذكريات يا دمشق..
أمطار أوروبا على مدى عصور
لن تمحو بصماتك عن أسوار قلبي
وعبثاً يركض الثلج بممحاته المتوحشة فوق سطور أيامنا...
قبل أن أرحل بعيداً كأية بومة أدمنت الليل،
قرأت دفتر الياسمين في دمشق..
قرأت أحجارها العتيقة.. كنائسها وجوامعها..
قرأت وجوه عشّاقها ومجانينها، ليلها وفجرها..
قرأت فصولها الخمسة وأوراقها الخريفية "الدهبيات"،
قرأت شواهد مقابرها ووجوه بسطائها وبسطات فقرائها...
قرأت طلاسمها. أحجياتها. تعاويذها. رياحها...
قرأت دم ثوارها وسجونها. حبال مشانق شهدائها..
قرأت ميسلون.
وحين تخرّجت من مدرستها، وصرت وتراً يعزفها
بدأت طيراني الليلي بومة متوحدة في دمها ذلك كله..
وليلة انكسر جناحي على طرف القمر..
وسال دمي الأزرق حبراً حتى البحر..
سألني الليل: ما اسمك أيتها البومة الدمشقية؟
قلت له: اسمي الحرية..
________
16 9 1988
لا يوجد تعليقات حالياً