الولد الراكض في الذاكرة – أدونيس
قَوْسُ رَيْحانٍ عريشٌ من حَمامٍ
والشّبابيكُ رمت أبوابَها
ليدِ الرّيحِ/الحقولْ
قريةٌ من سَعَفِ النّخْلِ ومن حِبْر الفُصولْ.
غضبُ الرّعدُ ولُطف الغَيْم فيها ربّياني
قريةٌ نسهر في سِروالها
ويبوحُ التّين والتّوت بما تخجلُ منه الشّفتانِ.
...
في أعالي شَجَر النّخْلِ نمت ذاكرتي
هوذا السّمّاق نجْنيه وهيّأنا البقولْ
ونقول التّابِلُ الطّيبُ لن ينقصنَا هذي العشيّهْ
هوذا يحتضن النّسرينَ طِفْلٌ
كي يردّ الورْدُ لِلْوَردِ التحيّهْ.
في أعالي شجر النّخْل نَمتْ ذاكرتي
إنه النّرجسُ يأتي حافياً
ما الذي يشغلهُ
والرّفيقُ العشب يعطيني ذراعيه وأُعطيه قميصي
وتغطّينا يدا زيتونة
ليَ في دفتريَ الأخضر شُبّاكٌ وفي الأزرقِ وَعْدٌ
ليَ في محفظةِ الشّمس كتابٌ...
...
في أعالي شَجرِ النّخل نَمت ذاكرتي
نبعُ صَفْصافٍ، بُكاءٌ
أتُرى أسمع للجنّ عَزيفاً
أمْ هيَ الأغصانُ موسيقى؟ تَرنّمْ
أيّها الصَفصافُ وامنحنيَ أن أصغي إليكْ
أن أرى وجهيَ مرسوماً عليكْ
هاجساً يَقرأ صوتَ الماء في صمت الحَجَرْ
ودماً يكتبُ/في أوراقِه
مَطرٌ يمشطُ أغصانَ الشّجَرْ.
...
هَبَطَتْ ذاكرتي
مِن أعالي شجرِ النّخلِ/سلاماً
لِلصّديق الولد الرّاكِضِ في ذاكرتي
لم يَزُرْني اليومَ لم يُومئ إليّ
مثلَما عَوّدني أسْلمتُ وجهي
لِمراياهُ: مَنِ الضّائعُ مِنّا؟
ومَنِ الصّامِتُ والنّاطِقُ ؟ غامَت
شفتاهُ أتُراهُ ساكِنٌ في شفتيّ؟
...
أيُّهذا الولَدُ الرّاكض في ذاكرتي
جُرحيَ النّازف يَسْتعصي ولكن
جسدي يَنمو ويزهو
فأنا والبحرُ في الموت سواءْ
وأنا قبّرة الحزْنِ أنا ذِئْبُ الفَرَحْ
أيّها الطّالعُ من هذا الفضاءْ
أنتَ جرحٌ آخَرٌ ينزفُ أم قوسُ قُزَحْ؟
...
هبطَتْ ذاكرتي
مِن أعالي شَجر النّخْل / سلاماً
يا شبيهي الولدُ الرّاسبُِ في ذاكرتي
أنت مَن يَجمح في نَبْضيَ أم أنتَ الحريقْ؟
وسلاماً أيّها الطّيفُ الصّديق
عشْتَ محمولاً على نَرْدٍ وسمّيتَ القمر
فَرَساً حيناً وحيناً فارساً
كانت الشمس تؤاخيك وتبني
معكَ البيتَ الذي تبنيه من قَشٍّ وتلهو
بالحصى مثلَكَ / لو تعطينيَ الآنَ يَديكْ...
وسلاماً
أيّهذا الشّجر الماثلُ في ذاكرتي
أَأَنا نُطقك أم صمتكَ أوْ ما تنقلُ الرّيح إليكْ
مِن غُبار الشّجر الآخرِ؟ لَو تعطينيَ الآنَ يديكْ
لو يقول الأفُق السّاهِرُ في ليل رؤاكَ السّاهره
ما الذي تَمْخُضُ في غابةِ أيّامي رياحُ الذّاكره...
...
في أعالي شجر النّخل نمت ذاكرتي
لم أكن أعرفُ أنّ الجسدَ العاشِقَ مرسومٌ بمنقارِ سنونو
لم أكن أعرف أنّ الحبّ لا يعرفه إلا الجنونُ
...
لِمن النّجمةُ تُرخي شعرّها
وتلاقيها إلى البَيْدرِ أفراسُ التّعَبْ
بين عينيها طريقٌ ويداها
خَيْمَةٌ...
حَقّاً؟ خُذيني
.../ حوضُ أحزانٍ وماءُ اللّيلِ/غُصْنا
واقتسمنا قمرَ الماء، يقيناً
تحلم النّجمةُ أن تسكنَ بيتاً مِن قَصَبْ.
__________
بيروت، أيار، 1982
لا يوجد تعليقات حالياً