الأسطورة الأزليّة – إيليا أبو ماضي
كان زمان ، لم يكن كائنا … و حالة ، ما برحت باقية
ملّ بنو الإنسان أطوارهم … و برموا بالسقم و العافية
فاستصرخوا خالقهم و اشتهوا … لو أنّه كوّنهم ثانية
و بلغت أصواتهم عرشه … في ليلة مقمرة صافية
فقال ، إنّي فاعل ما اشتهوا … لعلّ فيه حكمة خافية
و شاهدوه هابطا من عل … فاحتشدوا في السّهل و الرّابيه
من القرى القانعة الطاوية … و المدن الجامحة الغادية
تألّبوا من كلّ صوب كما … تجتمع الأمطار في الساقيه
يسابق الصّعلوك ربّ الغنى … و الأبله الباقعة الداهية
و يدفع الشّيخ التوى عوده … وصار مثل الرمّة البالية
فتى مضى الفجر و لمّا نزل … روعته في وجهه باقية
و تزحم الحسناء ممكورة … خلابة كالروضة الحالية
دميمة تشبه في قبحها … مدينة مهجورة عافية
فقال ربّ العرش : ما خطبكم : … مابالكم صرخاتكم عالية ؟
هل أصبحت أرضكم عاقرا ، … أم غارت الأنجك في هاوية ؟
أم أقلع الماء فلا جدول ، … و ماتت الطير فلا شادية ؟
أم فقدت أعينكم نورها ، … أم غشيت أرواحكم غاشية ؟
أين الهوى ، إن لم يكن قد قضى … فكل جرح واجد آسية
قال الفتى : يا ربّ إنّ الصّبا … مصدر أحزاني و آلامي
ألبستنيه مونقا بعدما … أبلاه أخوالي و أعمامي
و صار في مذهبهم عصره … فترة زلاّت و آثام
فاختلفت حالي و حالاتهم … كأنّني في غير أقوامي
وصرت كالجدول في فدفد … أو شاعر ما بين أصنام
و الأخضر المورق في يابس … أو مثل صاح بين نوّام
دنياهم دنياي ، لكنّما … أعلامهم ليست كأعلامي
عندهم الروضة أشجارها … و الروض عندي الزهر النامي
و الطير لحم ودم عندهم … و ليس عندي غير أنغام
سكري بها أو بالندى و الشذى … و سكرهم بالخمر في الجام
يسخر قلبي بلياليهم … و يسخر الدهر بأيّامي
كأنّني جئت لتبكيتهم … كأنّما جاؤوا لإيلامي
عبء على نفسي هذا الصّبا … ألجائش المستوفز الطامي
يزرع حولي زهرات المنى … و شوكها في قلبي الدامي
فان ؛ له كلّ فان هوى … فان ، و لا ينجو من الذام
خذه ، و خذ قلبي و أحلامي … فإنّني أشقى بأحلامي
ومر يمرّ الدهر في لحظة … كالطيف أو كالبرق قدّمي
وازرع نجوم في لمّتي … فينجلي حندس أوهامي
فأبصرُ الحكمة في ضوئه … إني إليها جائعٌ ظامي
وجاء شيخ حائر واجف … مشتعل اللّمّة بالي الإهاب
كأنّما زلزلة تحته … لما به رعشة واضطراب
فصاح : يا ربّاه خذ حكمتي … واردد على عبدك عصر الشباب
إنّ أماني الروح أزهارها … و إنّ روحي اليوم قفر يباب
لا جدولٌ، لا بلبلٌ منشدٌ، … بلى، بها الوحشة والإكتئابْ
تلك الأماني ، على كذبها ، … لم تكن اللّذّة فيها كذّاب
زالت و ما زالت ؛ و إنّ الشّقا … أن تطمس الآي و يبقى الكتاب
و تسلب السرحة أرواقها … و لم تزل أعراقها في التراب
كنت غنيّا في زمان الصّبا … و كنت صفر الكفّ ، صفر الوطاب
صحوت من جهلي فأبصرتني … كأنّني سفينة في العباب
قيل لها ، في البحر كلّ المنى … فلم تجد فب البحر إلاّ الضّباب
نأت عن الشّطّ و لم تقترب … شبرا من السرّ الذي في الحجاب
و لو ترجّى أو به لاشتفت … لكنّما عزّ عليها الإياب
مر تقف الأيّام عن سيرها … فإنّها تركض مثل السّحاب
وضع أمامي ، لا ورائي ، المنى … وطوّل الدرب ، وزد في الصّعاب
ما لذّتي بالماء أروى به … بل لذّتي بالعدو خلف السّراب
و قالت الحسناء : يا خالقي … و هبتني الحسن فأشقيتني
وجهي سنّي مشرق ، و إنّما … مرعى عيون الخلق وجهي السني
حظّي منه حظّ ورد الربى … من عطره الفوّاح و السوسن
و مثل حظّ السرو من فيئه … و الطير من تغريدها المتقن
و مثل حظّ النجم من نوره … في الحندس المعتكر الأدجن
للقائل الفيء ، و السامع … التغريد ، و الزهرة للمجتني
و النور للمدلج و المجتلي ، … و الدرّ للغائص و المقتني
كم ريبة دبّت إلى مضجعي … مع الجمال الرائع الممكن
إن عشقت نفسي فويل لها … و الويل لي إن رجل حبّني
السمّ و الشوك و جمر الغضا … أهون من كاشحة الألسن
كم تقتفيني نظرات الخنا … ويلي من خائنة الأعين
لم يبق في روحي من موضع … يا ربّ لم يخدش و لم يطعن
إنّ الغنى في الوجه لي آفة … فليت أنّي دمية ليتني …
و سكتت ؛ فصاحت الجارية … باكية من بؤسها شاكية :
ذنبي إلى هذا الورى خلقتي … فهل أنا المجرمة الجانية ؟
إن أخطأ الخزّاف في جبله ال … طين فأيّ ذنب للآنية ؟
أليس من يسخر بي يزذري … بالقوّة الموجدة البارية ؟
لو كنت حسناء بلغت العلى … فللجمال الرتبة العالية
فبات من أسجد قدّامه … صاغرة يسجد قدّمية
فإنّني في ملإ ظالم … أحكامه جائرة قاسية
ليس لذّات القبح من غافر … وفيه من يغفر للزّانية
نفسي جزء منك ، يا خالقي … و إنّها عاقلة راقية
أليس ظلما ، و هي بنت العلى ، … إن تك بالقبح إذن كاسية ؟
فليكن الحسن رداء لها … ترفل به ، أو فلتكن عارية
و أقبل الصّعلوك مسترحما … في مقلتيه شبح اليأس
يصرخ يا ربّاه حتّى متى … تحكّم الموسر في نفسي ؟
و تضع التاج على رأسه … و تضع الشوك على رأسي ؟
و يشرب اللّذّات من كأسه … و أشرب الفصّات من كأسي
و تنجلي الأنجم في ليله … ضاحكة كالغيد في عرس
و يتوارى في نهري السنا … أو يتبدّى حانق الشّمس
يا ربّ لا تنقله عن أنسه … و إنّما انقلني إلى الأنس
فإن تشأ أن لا يذوق الهنا … قلبي فجرّدني من الحسّ
لو لم يكن غيري في غبطة … ما شعرت روحي بالبؤس
و قال ذو الثّروة : ما أشتهي … لا أشتهي أنّي ذو ثروة
أنفقت أيّامي على جمعها … و خلتني أدركت أمنيتي
فاستعبدتني في زمان الصبا … و أوقرت بالهمّ شيخوختي
قد ملكتني قبلما حزتها … و ملكتني و هي في حوزتي
كنحلة أمسكها شهدها … من الجناحين فلم تفلت
حسبتها تكسبني قوّة … فافترست قوّتها قوّتي
جنت على نفسي و أحلامها … جناية الشوك على الوردة
ينمو فتذوي فهي علّيقه … يحذرها الطائف بالروضة
من قائل عنّي لمن خالني … أمرح من دنياي في جنّة :
لا تنظر الأضواء في حجرتي … وانظر إلى الظلماء في مهجتي
و لا يغرّنّك قصري فما … قصري سوى سجن لحرّيّتي
أنّي في الصرح الرفيع الذرى … كطائر ، في قفص ، ميّت
كم في عباب البحر من سابح … قد مات ظمآنا إلى قطرة
موت الطوى شرّ و لكنّما … أفظع منه الموت بالتّخمة
إن سهر العاشق من لوعة … أو سهر المحزون من كربه
فالشوق كالحزن له آخر … و ينقضي في آخر المدّة
أمّا أنا فقلقي دائم … ما دمت في مالي و في فضّتي
و الخوف من كارثة لم تقع … أمصّ من كارثة حلّت
كم من فقير مرّ بي ضاحكا … كأنّما يسخر من غصّتي
رأيته بالأمس من كوّتي … فخلتني أنظر من هوّة
و كنت كالحوت رأى موجة … ضاحكة ترقص كالطفله
أو حيّة تدبّ في منجم … ترنو إلى فراشة حرّه
قد اختفت ذاتي في بردتي … فما يرى الخلق سوى بردتي
فهم إذا ما سلّموا سلّموا … على خيوط البرد و الحلّة
ربّاه أطلق من عقال الغنى … روحي ، فإنّي منه في محنه
وانزع من الدينار من قبضتي … صلابة الدينار من سحنتي
و حوّل المال إلى راحة … و حوّل القصر إلى خيمة
و صرخ الأبله مستفسرا … ما القصد من خلقي كذا و المراد ؟
ألم يكن يكمل هذا الورى … إلاّ أوجدتني في فساد
لي صورة النّاس و حاجاتهم … من مطعم أو مشرب أو رقاد
لكنّ لبّي غير ألبابهم … فإنّه مكتنف بالسواد
يعجزني إدراك ما أدركوا … كأنّ عقلي فحمة أو رماد
إن كنت إنسانا فلم يا ترى … لست بادراكي كباقي العباد ؟
أولم أكن منهم فمرني أكن … جرادة أو أرنبا أو جواد
فالندّ لا يعدم مع ندّه … ذريعة للسلم أو للجهاد
لا تسخر النّملة من نملة … و ليس يزري بالقراد القراد
أم أنت كالحقل على رغمه … ينمو مع الحنطة فيه القتاد
وجاء بعد المستريب … الألمعي العبقريّ اللّبيب
فقال : إنّي تائه حائر … أنا غريب في مكان غريب
أبحث عن نفسي فلا أهتدي … و ليس يهديني إليها أريب
أنا عليم حيث لا عالم … أنا لبيب عند غير اللّبيب
لو أنّني كنت بلا فطنه … سرت و لم تكثر أمامي الدروب
و كان عقلي كعقول الورى … و كان قلبي مثل باقي القلوب
و صار عندي كالنجوم الورى … فلا عدوّ فيهم أو حبيب
ولم أر في ضحكهم و البكا … شيئا سوى الضّحك و غير النّحيب
و لم أسائل كوكبا طالعا … ما لك تبدو ، و لماذا تغيب
و لم أقف في الروض عند الضحى … يذهلني لون و شكل و طيب
و لم أقل ما كنت من قبلما … كنت ، و لا ما في سجلّ الغيوب
ما العقل ، يا ربّ ، سوى محنة … لولاه لم تكتب عليّ الذنوب
لمّا وعى الله شكايا الورى … قال لهم : كونوا كما تشتهون
فاستبشر الشيخ و سرّ الفتى … و الكاعب الحسناء و الحيزبون
لكنّهم لمّا اضمحلّ الدجى … لم يجدوا غير الذي كانا
هم حدّدوا القبح فكان الجمال … و عرّفوا الخير فكان الطلاح
و ليس من نقص و لا من كمال … فالشوك في التحقيق مثل الأقاح
و ذرّة الرمل ككلّ الجبال … و كالذي عزّ الذي هانا