أود من الأيام ما لا توده – المتنبي

أوَدُّ مِنَ الأيّامِ مَا لا تَوَدُّهُ … وَأشكُو إلَيهَا بَيْنَنَا وَهْيَ جُنْدُهُ

يُباعِدْنَ حِبّاً يَجْتَمِعْنَ وَوَصْلُهُ … فكَيفَ بحِبٍّ يَجْتَمِعنَ وَصَدُّهُ

أبَى خُلُقُ الدّنْيَا حَبِيباً تُديمُهُ … فَمَا طَلَبي مِنهَا حَبيباً تَرُدّهُ

وَأسْرَعُ مَفْعُولٍ فَعَلْتَ تَغَيُّراً … تَكَلفُ شيءٍ في طِباعِكَ ضِدّهُ

رَعَى الله عِيساً فَارَقَتْنَا وَفَوْقَهَا … مَهاً كُلها يُولَى بجَفْنَيْهِ خَدُّهُ

بوَادٍ بِهِ مَا بالقُلُوبِ كَأنّهُ … وَقَدْ رَحَلُوا جِيدٌ تَنَاثَرَ عِقدُهُ

إذا سَارَتِ الأحداجُ فَوْقَ نَبَاتِهِ … تَفَاوَحَ مِسكُ الغانِياتِ وَرَنْدُهُ

وَحالٍ كإحداهُنّ رُمْتُ بُلُوغَهَا … وَمِنْ دونِها غَوْلُ الطريقِ وَبُعدُهُ

وَأتْعَبُ خَلْقِ الله مَنْ زَادَ هَمُّهُ … وَقَصّرَ عَمّا تَشتَهي النّفس وَجدُهُ

فَلا يَنحَلِلْ في المَجدِ مالُكَ كُلّهُ … فيَنحَلَّ مَجْدٌ كانَ بالمالِ عَقدُهُ

وَدَبِّرْهُ تَدْبيرَ الذي المَجْدُ كَفُّهُ … إذا حارَبَ الأعداءَ وَالمَالَ زَنْدُهُ

فَلا مَجْدَ في الدّنْيَا لمَنْ قَلّ مَالُهُ … وَلا مالَ في الدّنيا لمَنْ قَلّ مَجدُهُ

وَفي النّاسِ مَنْ يرْضَى بميسورِ عيشِهِ … وَمَرْكوبُهُ رِجْلاهُ وَالثّوْبُ جلدُه

وَلَكِنّ قَلْباً بَينَ جَنْبَيّ مَا لَهُ … مَدًى يَنتَهي بي في مُرَادٍ أحُدُّهُ

يَرَى جِسْمَهُ يُكْسَى شُفُوفاً تَرُبُّهُ … فيَختارُ أن يُكْسَى دُرُوعاً تهُدّهُ

يُكَلّفُني التّهْجيرَ في كلّ مَهْمَهٍ … عَليقي مَرَاعِيهِ وَزَاديَ رُبْدُهُ

وَأمْضَى سِلاحٍ قَلّدَ المَرْءُ نَفْسَهُ … رَجَاءُ أبي المِسْكِ الكَريمِ وَقصْدُهُ

هُما ناصِرَا مَنْ خانَهُ كُلُّ ناصِرٍ … وَأُسرَةُ مَنْ لم يُكثِرِ النّسلَ جَدُّهُ

أنَا اليَوْمَ مِنْ غِلْمانِهِ في عَشيرَةٍ … لَنَا وَالِدٌ مِنْهُ يُفَدّيهِ وُلْدُهُ

فَمِنْ مَالِهِ مالُ الكَبيرِ وَنَفْسُهُ … وَمِنْ مَالِهِ دَرُّ الصّغِيرِ وَمَهْدُهُ

نَجُرّ القَنَا الخَطّيّ حَوْلَ قِبَابِهِ … وَتَرْدي بِنا قُبُّ الرّباطِ وَجُرْدُهُ

وَنَمْتَحِنُ النُّشّابَ في كلّ وَابِلٍ … دَوِيُّ القِسِيّ الفَارِسِيّةِ رَعْدُهُ

فإنْ لا تَكُنْ مصرُ الشَّرَى أوْ عَرِينَه … فإنّ الذي فيهَا منَ النّاسِ أُسدُهُ

سَبَائِكُ كافُورٍ وَعِقْيانُهُ الذي … بصُمّ القَنَا لا بالأصَابعِ نَقْدُهُ

بَلاهَا حَوَالَيْهِ العَدُوُّ وَغَيْرُهُ … وَجَرّبَهَا هَزْلُ الطّرَادِ وَجِدّهُ

أبو المِسْكِ لا يَفْنى بذَنْبِكَ عفوُهُ … وَلَكِنّهُ يَفْنى بعُذْرِكَ حِقدُهُ

فَيَا أيّها المَنْصُورُ بالجَدّ سَعْيُهُ … وَيَا أيّها المَنْصُورُ بالسّعيِ جَدّهُ

تَوَلّى الصِّبَى عَنّي فأخلَفتَ طِيبَهُ … وَمَا ضَرّني لمّا رَأيْتُكَ فَقدُهُ

لَقَدْ شَبّ في هذا الزّمانِ كُهُولُهُ … لَدَيْكَ وَشابَتْ عندَ غَيرِكَ مُرْدُهُ

ألا لَيْتَ يَوْمَ السّيرِ يُخبرُ حَرُّهُ … فَتَسْألَهُ وَاللّيْلَ يُخْبرُ بَرْدُهُ

وَلَيْتَكَ تَرْعاني وَحَيرَانُ مُعرِضٌ … فتَعْلَمَ أنّي من حُسامِكَ حَدّهُ

وَأنّي إذا باشَرْتُ أمراً أُريدُهُ … تَدانَتْ أقاصِيهِ وَهَانَ أشَدُّهُ

وَمَا زَالَ أهلُ الدّهرِ يَشْتَبِهونَ لي … إلَيْكَ فَلَمّا لُحْتَ لي لاحَ فَرْدُهُ

يُقالُ إذا أبصَرْتُ جَيْشاً وَرَبَّهُ … أمامكَ رَبٌّ رَبُّ ذا الجيشِ عبدُهُ

وَألْقَى الفَمَ الضّحّاكَ أعلَمُ أنّهُ … قَريبٌ بذي الكَفّ المُفَدّاةِ عهدُهُ

فَزَارَكَ مني مَنْ إلَيْكَ اشتِياقُهُ … وَفي النّاسِ إلاّ فيكَ وَحدَكَ زُهدُهُ

يُخَلِّفُ مَنْ لم يَأتِ دارَكَ غَايَةً … وَيأتي فيَدري أنّ ذلكَ جُهْدُهُ

فإنْ نِلْتُ ما أمّلْتُ منكَ فرُبّمَا … شَرِبْتُ بمَاءٍ يُعجِزُ الطّيرَ وِرْدُهُ

وَوَعْدُكَ فِعْلٌ قَبلَ وَعْدٍ لأنّهُ … نَظيرُ فَعَالِ الصّادِقِ القوْلِ وَعدُهُ

فكنْ في اصْطِناعي مُحسِناً كمُجرِّبٍ … يَبِنْ لَكَ تَقرِيبُ الجَوَادِ وَشَدُّهُ

إذا كنتَ في شَكٍّ من السّيفِ فابْلُهُ … فإمّا تُنَفّيهِ وَإمّا تُعِدّهُ

وَمَا الصّارِمُ الهِندِيُّ إلاّ كَغَيرِهِ … إذا لم يُفارِقْهُ النِّجادُ وَغِمْدُهُ

وَإنّكَ لَلْمَشْكُورُ في كُلّ حالَةٍ … وَلَوْ لم يكُنْ إلاّ البَشاشَةَ رِفْدُهُ

فكُلُّ نَوَالٍ كانَ أوْ هُوَ كائِنٌ … فلَحظَةُ طَرْفٍ منكَ عنديَ نِدّهُ

وَإنّي لَفي بَحْرٍ منَ الخَيرِ أصْلُهُ … عَطَاياكَ أرْجُو مَدّهَا وَهيَ مَدُّهُ

وَمَا رَغْبَتي في عَسْجَدٍ أستَفيدُهُ … وَلَكِنّها في مَفْخَرٍ أسْتَجِدّهُ

يَجُودُ بِهِ مَن يَفضَحُ الجودَ جودُهُ … وَيحمَدُهُ مَن يَفضَحُ الحمدَ حمدُهُ

فإنّكَ ما مرّ النُّحُوسُ بكَوْكَبٍ … وَقَابَلْتَهُ إلاّ وَوَجْهُكَ سَعدُهُ